غراسيا ليوفارير

اليابان... وجهة عالمية جاذبة بعد زمن الوباء

30 تموز 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

حين ينتهي وباء "كوفيد - 19"، سيتحرك الناس مجدداً ويجولون العالم بحثاً عن فرص العمل والتعليم وسعياً لتحسين أسلوب حياتهم. لكنّ وجهة تحركهم قد تتغير إلى الأبد. ستصبح الحياة في بعض البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة، غير محبذة بقدر ما كانت عليه قبل الوباء. حتى أن طبيعة الأزمة الراهنة قد تدفع من يفكرون بالهجرة إلى تقدير قيمة الأمان والاستقرار والحفاظ على الروابط العائلية.



كشف التعامل الأميركي مع الفيروس حجم الفوضى والانقسامات في الولايات المتحدة التي توشك على خسارة المهاجرين. لكن من المتوقع أن تفوز بهم بلدان أخرى وتستفيد في الوقت نفسه من منافع التنوع والحيوية والمهارات الجديدة. لن يستفيد الكثيرون بقدر اليابان الآمنة والمستقرة حيث تنخفض نسبة البطالة، وتتوسع الحاجة إلى العمّال، وتكثر الجامعات الممتازة القادرة على جذب الطلاب المترددين راهناً في دفع نفقات الدراسة المكلفة في الغرب.

لطالما اعتُبرت اليابان بلداً متجانساً بدرجة معينة. وبعد زمن الوباء، من المتوقع أن تصبح أكثر تنوعاً وترابطاً مع العالم. هذا التحوّل سيعيد رسم المجتمع الياباني ويتحدى المعنى التقليدي للهوية الوطنية، وهو عامل ضروري كي تبقى اليابان قوة مؤثرة على الساحة العالمية.

أرض الفرص الجديدة


على عكس عدد كبير من الدول الصناعية الغنية، تشمل اليابان عدداً منخفضاً نسبياً من المهاجرين. تقتصر نسبة غير المواطنين على 2% تقريباً من أصل 126 مليون مقيم، ومنذ العام 1980 نال حوالى 440 ألف مهاجر فقط الجنسية اليابانية. في المقابل، تبلغ نسبة المواطنين المجنّسين أو غير المواطنين 13% من المقيمين في الولايات المتحدة. دفعت أزمة فيروس كورونا اليابان إلى فرض ضوابط إضافية على توافد المهاجرين، بما في ذلك منع المقيمين الأجانب القدامى من الدخول مجدداً إلى البلد. تثبت هذه التدابير أن اليابان تتخذ موقفاً عدائياً في موضوع الهجرة.

لكن تريد اليابان تغيير هذه الفكرة على ما يبدو. ابتكرت الحكومة اليابانية في السنوات الأخيرة فئات جديدة من التأشيرات وخفّفت معايير التأشيرات القائمة لاستقدام عدد إضافي من العمال الأجانب والطلاب الدوليين والاحتفاظ بهم. خلال السنوات الخمس التي سبقت الوباء المستجد، ارتفع عدد المقيمين الأجانب في اليابان بنسبة 31%. يتمتع هذا البلد بمزايا قادرة على جذب أعداد إضافية من المهاجرين بعد زمن الوباء، منها فرص عمل واعدة، وتعليم عال بكلفة مقبولة نسبياً، وبيئة اجتماعية آمنة ومنظّمة. لطالما تفاخرت اليابان بهذه المزايا، لكنّ الدمار الذي سبّبته الأزمة الصحية العالمية الأخيرة جاء ليسلّط الضوء عليها اليوم. لا يزال سوق العمل في اليابان قوياً، رغم الركود الاقتصادي العالمي وزيادة البطالة في كل مكان. في نهاية شهر أيار، بلغت نسبة البطالة في اليابان 2.9%، وقد زادت بدرجة صغيرة في الأشهر الماضية لكنها تبقى أقل بكثير من المعدلات التي تسجّلها اقتصادات صناعية كثيرة أخرى، على غرار فرنسا (8.1%) والولايات المتحدة (13.3%). كذلك، بلغت نسبة الوظائف الشاغرة 1.2 (ما يعني أن معدل الوظائف المتاحة لكل مقدّم طلب يساوي 1.2). هذا المعدل هو أقل من مستوى السنة الماضية (1.6) ومن المتوقع أن ينخفض بدرجة إضافية في ظل استمرار الوباء، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى وجود وظائف شاغرة في اليابان.

ساهم القطاع الخاص الياباني في الحفاظ على نسبة بطالة منخفضة على نحو مدهش. منذ الركود الاقتصادي الكبير في العام 2008، احتفظت الشركات اليابانية بجزء كبير من أرباحها كمبالغ احتياطية للأوقات الصعبة بدل مكافأة المستثمرين وزيادة رواتب الموظفين. وفي نهاية آذار الماضي، ذكرت تلك الشركات أن إجمالي الاحتياطيات النقدية فيها يصل إلى 283 تريليون ين ياباني (2.65 تريليون دولار). حين اجتاح الوباء العالم، استطاعت الشركات اليابانية أن تستعمل احتياطياتها للاحتفاظ بعمّالها. لكنّ تلك الاحتياطيات ليست لامتناهية: إذا دامت الأزمة لفترة طويلة وانكمش الاقتصاد، ستُفرِغ الشركات اليابانية خزائنها في نهاية المطاف. مع ذلك، ساهمت نزعتها المحافِظة في توجيه البلد في الأوقات المضطربة.





وجهة للتعليم

بالإضافة إلى جذب أعداد متزايدة من المهاجرين الباحثين عن عمل مقارنةً بالماضي، بدأت اليابان تزداد شعبية باعتبارها وجهة مناسبة للطلاب الدوليين، لا سيما أولئك القادمين من الصين وبلدان آسيوية أخرى. تجذب اليابان الطلاب من الخارج منذ الثمانينات، لكنّ هيمنة اللغة الإنكليزية على العالم رجّحت الكفة لصالح جامعات أوروبا وأميركا الشمالية. يفضّل معظم الطلاب الصينيين مثلاً أن يدرسوا في بريطانيا أو الولايات المتحدة بدل اليابان. لكن قد يعيق فيروس كورونا هذه النزعة في المرحلة المقبلة.

يأتي الطلاب الدوليون في الجامعات الأميركية من الصين أكثر من أي مكان آخر، لكن من المنتظر أن تنخفض أعدادهم قريباً. يتوقع الخبراء منذ الآن حصول انخفاض مماثل نتيجة سياسات الهجرة التي تعتمدها إدارة ترامب وحربها التجارية مع بكين. في هذه المرحلة، قد تمنع أزمة "كوفيد-19" الطلاب الصينيين من التوجه نحو الغرب. يتردد الأهالي والطلاب اليوم في دفع تكاليف الدراسة الباهظة بعدما بدأت أعداد كبيرة من الكليات والجامعات بإعطاء الدروس عبر الإنترنت. كذلك، كانت الموجة الأخيرة من الاعتداءات المعادية للآسيويين في الولايات المتحدة وبلدان غربية أخرى كفيلة بإثارة قلقهم. يجد الأميركيون والبريطانيون صعوبة كبرى في السيطرة على الوباء، وجاءت الاضطرابات الاجتماعية المتزايدة في الولايات المتحدة لتهز ثقة الأجانب بالبلد. غداة الأزمة العالمية، قد تعتبر العائلات المسافة الجغرافية عاملاً أكثر أهمية حين تقرر إرسال أولادها إلى الخارج لمتابعة تحصيلهم العلمي وتُحدد الوجهة التي تناسبهم.

تشكّل اليابان بديلاً جاذباً للطلاب الصينيين والآسيويين الذين يريدون الدراسة في الخارج. تتعدد الجامعات اليابانية التي تُعتبر من الأفضل في العالم، وتساوي كلفة الدراسة في اليابان جزءاً بسيطاً من كلفتها في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. كذلك، تقدم جامعات يابانية كثيرة اليوم دروسها باللغة الإنكليزية.

على صعيد آخر، يصبح التعلم في اليابان خياراً جاذباً مع مرور الوقت بسبب وفرة فرص العمل الواعدة هناك. تقدم اليابان إلى خرّيجي الجامعات إجراءات مؤسسية وعالية التنظيم للبحث عن عمل، وهي ملتزمة بزيادة أعداد المتخرجين الأجانب في اليد العاملة المحلية. خلال السنوات الخمس بين 2015 و2019، زاد عدد الطلاب الدوليين في اليابان بنسبة 40%، من أقل من 250 ألفاً إلى 350 ألفاً تقريباً. ومن بين الطلاب الدوليين المتخرجين من مؤسسات تعليمية يابانية بين نيسان 2018 وآذار 2019، وجد 35% وظائف في اليابان، وتابع 30% آخرون تحصيلهم العلمي هناك.

منذ بدء وباء كورونا، تلقّت الجامعات اليابانية أعداداً قياسية من الطلبات من الصين. يُضاف توسّع الاهتمام بهذا البلد إلى نزعة متنامية منذ فترة: جاء عدد كبير من الطلاب الصينيين إلى اليابان في السنوات الأخيرة لاستكمال تعليمهم الجامعي بعدما درسوا في أستراليا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة. وحين سُئل مقدّمو الطلبات عن أسباب مجيئهم إلى اليابان، ذكر معظمهم فرص العمل والأمان النسبي في البلد وقربه من بلدانهم الأم.





الإصــلاحــات الــداخــلــيــة ضــروريــة!


منذ انتشار الوباء، اتخذت الشركات اليابانية خطوات عملية لتسهيل حياة العمال المهاجرين. هذا النوع من الإصلاحات ضروري لأن بنية هذه الشركات أعاقت لفترة طويلة الطموحات المهنية للنساء والموظفين الأجانب. تُوظّف الشركات الموظفين باعتبارهم أعضاءً يمكن نقلهم بين مختلف المناصب والمواقع بحسب حاجات الشركة، ويبقى التقدم المهني بطيئاً في معظم الحالات. يؤدي أسلوب التوظيف هذا إلى تراجع أهمية مواصفات العمل الواضحة والتشديد على العمل الجماعي وزيادة الالتزامات والتضحيات التي تتّضح عبر دوام العمل الطويل. هذا الدوام ونظام التناوب على الوظائف زادا صعوبة تربية الأولاد التي تقع عموماً على عاتق المرأة. يستاء العمال الأجانب من مسار الترقية البطيء وعدم استقلالية الوظائف بدرجة غير مألوفة.

كان وباء "كوفيد - 19" كفيلاً بإحداث تغيرات بارزة في النظام القائم لأن هذا النوع من أسلوب العمل يفتقر بكل وضوح إلى المسؤوليات الدقيقة ويتطلب إشرافاً مستمراً وتنسيقاً متواصلاً ويصعب أن يستمر بعدما اعتمدت المكاتب نمط العمل عن بُعد. لهذا السبب، اضطر أرباب العمل اليابانيون لإعادة النظر بممارسات التوظيف والإدارة. في أماكن العمل عن بُعد، تلاحظ الشركات مزايا توظيف الأفراد لأداء مهام محددة وواضحة. تُخطط مجموعة شركات الآن لجعل هذه التعديلات دائمة. في ظل هذه الإصلاحات الواسعة، ستتمكن الشركات اليابانية من جذب أعداد إضافية من العمال الأجانب وأصحاب المهارات المتخصصة والاحتفاظ بهم.

لا تزال العقبات التي تمنع تحوّل اليابان إلى بلد أكثر تنوعاً وتأثيراً على الساحة العالمية قائمة. أدى الوباء المستجد إلى تشديد ضوابط المرور على الحدود، ومن المتوقع أن ترتفع نسبة البطالة طالما يستمر تفشي فيروس "كوفيد - 19"، ويتعين على الشركات اليابانية أن تُحدِث إصلاحات ضرورية لضمان انفتاحها وانفتاح المجتمع ككل على العالم. لكنّ مزايا اليابان كوجهة مناسبة للمهاجرين والطلاب أصبحت جليّة فيما يدمّر الوباء اقتصاد الدول ويجعل الجامعات الغربية أقل جذباً مما كانت عليه. لطالما كانت الشركات اليابانية مندمجة في الاقتصاد العالمي، لكن سيصبح المجتمع الياباني قريباً جزءاً منه أيضاً.


MISS 3