توماس غراهام

صراع محتمل في المنطقة القطبية الشمالية؟

6 آب 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

المنطقة القطبية الشمالية بعيدة جداً ومعزولة عن بقية العالم لدرجة أن تبدو أحياناً وكأنها تتحدى قواعد السياسة الطبيعية. بدأت العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا تتدهور منذ سنوات. وفي الفترة الأخيرة، تصادم البلدان في جميع الساحات الجيوسياسية حول العالم باستثناء المنطقة القطبية الشمالية. في مجلس القطب الشمالي، أبرز منتدى ديبلوماسي في المنطقة، عملت واشنطن وموسكو جنباً إلى جنب، واتفقتا مع الأعضاء الآخرين على ضرورة حماية النظام البيئي الهش في المنطقة ووضع بروتوكولات تضمن تطوير مواردها الطبيعية الوافرة للاستخدام التجاري بطريقة مسؤولة بيئياً. وخلال العقود التي تلت نهاية الحرب الباردة، عمد البلدان معاً إلى تقليص وجودهما العسكري هناك.

بدأت اليوم روح التعاون تلك تتلاشى. تزامناً مع ذوبان الغطاء الجليدي في المنطقة القطبية الشمالية، تنشأ طرقات تجارية جديدة وتظهر معها مجموعة من التحديات الأمنية غير المسبوقة. في السنوات الأخيرة، جدّدت روسيا وجودها العسكري على طول طريق البحر الشمالي، أي ممر الشحن الجديد الذي يبدأ من شرق النروج ويصل إلى مضيق "بيرينغ"، لتأمين ممر آمن لسفن الحاويات، ومواجهة التهريب وعمليات غير مشروعة أخرى، والدفاع عن الحدود الشمالية الممتدة على آلاف الأميال بعدما بقيت بلا حماية بسبب انحسار الجليد. في أنحاء المنطقة، تعمل موسكو على تعزيز قدراتها العسكرية. في العام 2014، أنشأت روسيا مساحة عسكرية جديدة تتحمل مسؤولية المنطقة القطبية الشمالية كلها، وهي تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ. وفي العام 2017، بدأت تبني أسطولاً صغيراً من كاسحات الجليد المُجهّزة لخوض الحروب ضد الغواصات، مع أن تلك السفن لن تبدأ العمل قبل سنوات. كذلك، تجددت الدوريات الجوية الاستراتيجية الروسية مقابل ساحل ألاسكا في العام 2007، وقد جذب اعتراضها الدائم من جانب الطائرات العسكرية الأميركية انتباهاً متزايداً في الفترة الأخيرة تزامناً مع توسّع الشكوك بالنوايا الروسية في واشنطن. في غضون ذلك، عبّر حلف الناتو عن مخاوفه من تصاعد تحركات الغواصات الروسية بالقرب من خط دفاع الناتو المضاد للغواصات في شمال المحيط الأطلسي (بين غرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة)، وهو عبارة عن نقطة اختناق بحرية في شمال الأطلسي.





رداً على هذه النشاطات كلها، تعيد الولايات المتحدة بناء قدراتها العسكرية الخاصة في المنطقة بعد تلاشيها منذ نهاية الحرب الباردة. بالإضافة إلى تعقب الغواصات الروسية بالقرب من خط دفاع الناتو المضاد للغواصات في شمال المحيط الأطلسي، كثّفت واشنطن دورياتها الجوية مقابل ساحل سيبيريا لاستكشاف الأنظمة الدفاعية الروسية وجمع معلومات استخبارية أخرى. تُخطط إدارة ترامب أيضاً لبناء أسطول من كاسحات الجليد لتنفيذ ما تعتبره "مهاماً أمنية وطنية واقتصادية" في المنطقة القطبية الشمالية. قد تبرز الحاجة على الأرجح إلى القيام باستثمارات إضافية لمراقبة النشاطات التجارية على طول ساحل ألاسكا وفي أنحاء المنطقة الاقتصادية الأميركية الخالصة وللدفاع عن التزام البلد بحرية الملاحة في المنطقة القطبية.

قد لا تُعتبر تحركات الطرفَين عدائية بالضرورة، كما أنها لا تنذر بمعركة جيوسياسية مرتقبة لتحديد الجهة التي تستطيع السيطرة على المنطقة. بل إن الحشد العسكري الروسي انحصر في مناطق لا تُعتبر فيها سلطة موسكو القانونية محط جدل. تشكّل نشاطات الغواصات والطائرات العسكرية بالقرب من خط دفاع الناتو ومقابل ساحل ألاسكا جزءاً من استراتيجية روسيا العالمية لمنع الاعتداءات العسكرية المحتملة، وهي لا تُركّز على المنطقة القطبية الشمالية بحد ذاتها. ينطبق المبدأ نفسه على التحركات الأميركية داخل المنطقة وفي محيطها.

لكن في ظل تعمّق انعدام الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا، قد تُسبب أبسط التحركات المرتبطة بأسباب أمنية مشروعة اضطرابات جيوسياسية غير مبررة. يبدو المتشددون في البلدين مستعدين لتضخيم التهديدات المحتملة وقد بدأوا منذ الآن يصوّرون المنطقة القطبية الشمالية وكأنها ساحة للمنافسة الجيوسياسية المحتدمة. تكسب مواقفهم تأييداً متزايداً بسبب توتر العلاقات الأميركية الروسية بشكل عام. يسهل أن تقع حادثة معينة وتؤكد على آرائهم. على سبيل المثال، تعتبر روسيا طريق البحر الشمالي جزءاً من مياهها الإقليمية، بينما تعتبره الولايات المتحدة جزءاً من المياه الدولية. وفي حال أصرّت واشنطن على تنفيذ التدريبات هناك بناءً على مبدأ حرية الملاحة (كما فعلت في شهر أيار في بحر "بارنتس"، على الطرف الغربي من الطريق البحري مروراً بالمياه الروسية)، قد تحصل مواجهة مع روسيا أو ربما ينشأ اشتباك عسكري في المرحلة اللاحقة.

لن تبقى الشكوك المتزايدة بين الطرفَين معزولة، بل إنها قد تعيق أي تعاون في المجالات التي تتداخل فيها المصالح الأميركية والروسية حتى الآن، لا سيما المشاكل البيئية التي سبّبها التغيّر المناخي في المنطقة القطبية الشمالية. في السنة الماضية، حذّر تقرير صادر عن الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ من احتمال أن يسبّب ذوبان التربة الصقيعية أضراراً كبرى في عدد من منشآت النفط والغاز الروسية في المنطقة القطبية الشمالية، علماً أنها تشكّل حوالى 45% من قدرة البلد الإنتاجية. توصّل تقييم آخر لمجلس القطب الشمالي في العام 2017 إلى استنتاجات مماثلة. وفي شهر حزيران الماضي، انهار خزان كبير ومليء بالوقود بعدما أدى ذوبان التربة الصقيعية إلى غرق أسسه. هذه الحادثة كانت بحجم تسرب النفط من ناقلة "إكسون فالديز" ووصوله إلى بحيرة "بياسينو" المجاورة ونهر "بياسينا" الذي يصبّ في المحيط المتجمد الشمالي.

تكون منشآت النفط والغاز الروسية الجديدة مُجهّزة لتحمّل ذوبان التربة الصقيعية بفضل أنظمة السيفون الحراري التي تبقي الأرض المحيطة بالمنشآت متجمدة وتُستعمَل في أنحاء ألاسكا. لكن لم يتم تحديث عدد كبير من مرافق المعالجة القديمة والخزانات وخطوط الأنابيب الروسية للتكيّف مع الظروف المتبدّلة. بعد تسرب النفط في حزيران، أمر الكرملين الشركات باتخاذ الخطوات التصحيحية اللازمة. لكن في ظل تراجع أسعار النفط، لا أحد يعرف ما ستفعله الشركات لتمويل التعديلات المطلوبة وتنفيذها في الوقت المناسب. تأثر قطاع النفط الروسي بفيروس كورونا المستجد بدرجة كبيرة، وهو يجد صعوبة أصلاً في تسديد نفقاته السنوية العادية. كذلك، أعاق الفيروس نشاطات طواقم العمل في قطاع النفط والغاز في أنحاء المنطقة.







تشكّل حرائق الغابات مصدر قلق آخر. في السنة الماضية، اندلعت حرائق متعددة على طول الدائرة القطبية الشمالية في ألاسكا وكندا وغرينلاند. وفي روسيا، انتشرت الحرائق في منطقة أكبر من بلجيكا كلها. وبعد شتاء دافئ وخالٍ من الثلوج بدرجة غير مسبوقة تاريخياً في أنحاء المنطقة، قد تكون هذه السنة أسوأ بعد. تُسرّع الحرائق ذوبان التربة الصقيعية وتُضرّ بالأنهار الجليدية وتطلق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، ولهذا السبب لا تنحصر المشكلة في هذه المنطقة. في السنة الماضية، عرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب المساعدة على روسيا لمكافحة حرائق الغابات، لكن رفضت روسيا العرض من باب فخرها الوطني. بعبارة أخرى، تستطيع روسيا أن تعتني بنفسها. (كانت الولايات المتحدة قد رفضت بدورها عرضاً مماثلاً من روسيا خلال حرائق الغابات في كاليفورنيا في العام 2018).

يمكن تحسين طريقة التعامل مع ذوبان التربة الصقيعية وحرائق الغابات بدرجة كبيرة إذا بذلت دول القطب الشمالي جهوداً إضافية لمساعدة بعضها البعض. تستطيع الشركات الأميركية والأوروبية أن تقدم مساعدة تقنية إلى قطاع النفط والغاز الروسي الذي يعمل على تحديث بنيته التحتية. كذلك، قد تسمح الحكومات الغربية للشركات الروسية بالحصول على تمويل عام وخاص لبرامج التكيّف مع المناخ ومعالجة البيئة. في الوقت الراهن، تمنع العقوبـــات الغربية ضد روســـيا تقديم مساعــدات مماثلة، لكن يمكن تعديل تلــــــك العقوبات كي تستثني مبادرات التعاون المرتبطة بالمناخ وتنظيف البيئة لأن هذه المشاريع تصبّ في مصلحة بلدان القطب الشمالي وما وراءها. قد يسهم التعاون في المسائل البيئية أيضاً في بناء الثقة المطلوبة بين واشنطن وموسكو لمعالجة مسائل دقيقة أخرى، بما في ذلك الإجراءات الأمنية في المنطقة.

يستطيع مجلس القطب الشمالي أن يقترح إنشاء منتدى مفيد ومتعدد الجوانب لمناقشة التعاون البيئي والتنموي، شرط أن تتوسع مهامه بناءً على المستجدات. من خلال عقد معاهدة مستقبلية، قد يدعم أعضاء المجلس مقاربة متعددة الجوانب لتجنب الحوادث والتعامل معها، والتحكم بحرائق الغابات، ومعالجة مسائل مناخية أخرى في المنطقة. لكن تتجاوز الإجراءات الأمنية صلاحيات المجلس وقد تتطلب تأسيس منتدى جديد. قد تشكّل الدول المُطلّة على القطب الشمالي (كندا، الدنمارك، النروج، روسيا، الولايات المتحدة) أساس تلك النقاشات الجديدة. لكنها ستحتاج إلى ضم بلدان أخرى: تطمح الصين تحديداً إلى استخراج موارد القطب الشمالي لاستعمالاتها الخاصة. يتعلق الهدف الأكثر إلحاحاً بتحديد قواعد سلوك واضحة لتنظيم النشاطات العسكرية في المنطقة وتخفيض احتمال أن تتحول الحوادث إلى صراع مسلّح. لتحقيق هذا الهدف، تستطيع الولايات المتحدة أن تتعاون مع حلفائها في المنطقة القطبية الشمالية لإطلاق حوار مع روسيا أو حتى الصين.

ربما تبدو المنطقة القطبية الشمالية مسألة هامشية في العلاقات الأميركية الروسية، لكنها تثبت أن أبسط الخطوات قد تكون كافية للحفاظ على تعاون إيجابي ومتبادل وكبح جهود المتشددين في البلدَين لتحويل المنطقة إلى ساحة تحتدم فيها المنافسة الجيوسياسية على نحو خطير. أعلن القادة الروس أن أي تقدم لإقامة علاقات بنّاءة، كما حصل عند إعادة ضبط العلاقات في بداية عهد باراك أوباما، ليس ممكناً في ظل الظروف الراهنة لكنهم مستعدون لاتخاذ خطوات بسيطة لجعل العلاقات الثنائية مثمرة. يجب أن تختبر الولايات المتحدة مدى جدّية هذا الاقتراح ولا مكان أفضل من المنطقة القطبية الشمالية لإجراء هذا الاختبار.


MISS 3