ألكسندر بونوف

لماذا قرّر بوتين تمديد حكمه؟

19 آب 2020

المصدر: The Moscow Times

02 : 00

لمعرفة السبب الذي دفع بوتين إلى التمسك بالسلطة، يجب أن يحلل المراقبون آراء الرئيس الروسي حول تاريخ روسيا في القرن العشرين والإرث الذي استلمه من أسلافه.

لطالما أيّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفكرة القائلة إنه لا يحكم روسيا بقبضة من حديد بل بلمسة خفيفة، واعتبر نفسه الزعيم الأول بلا منازع في بلده لأن الشعب يضع ثقته فيه. لكن بعدما أعلن بوتين نيّته البقاء في السلطة إلى ما لانهاية، يبدو أنه نكث ذلك العهد غير المكتوب مع الرأي العام الروسي. مع ذلك، يصعب تحديد دوافعه بدقة. لقد مرّت ستة أشهر تقريباً منذ إطلاق مسار الإصلاح الدستوري الذي اعتُبِر بداية البحث عن خَلَف بوتين للعام 2024 حتى بنظر الموالين للكرملين، لكن تبيّن لاحقاً أن الوضع مختلف.


أدى تغيّر وجهة بوتين إلى نشوء توتر غير متوقع مع الطبقة السياسية في روسيا. برأي كبار المسؤولين في النخبة الروسية، لم تكن "مشكلة العام 2024" تتعلق يوماً ببوتين، بل بمحاولتهم التمسك بالسلطة. قبل قرار بوتين المتسرّع بتعديل الدستور، كانت تلك الجماعات النخبوية تترقب عالماً يسمح لها بالاحتفاظ بسلطتها الجماعية من دون أن يتولى بوتين منصب الرئاسة.

لكن كان رأي بوتين أهم بكثير من رأيهم طبعاً. من وجهة نظر الرئيس، كانت روسيا بقيادة بوتين مرادفة لبوتين الفرد. بعبارة أخرى، لا أحد سواه يستطيع إدارة هذا البلد. لذا رفض المناورات الدستورية المعقدة التي اقترحها عليه مستشاروه استعداداً للعام 2024 واختار أبسط وأقسى حل: البقاء في سدة الرئاسة.


دروس من تجربته مع مدفيديف


سبق وسلّم بوتين الحكم لمسؤول آخر في مناسبة واحدة سابقاً، حين رضخ للبنود الدستورية التي تُحدد مدة ولايته الرئاسية وسمح لمستشاره وصديقه ديمتري مدفيديف باستلام منصب الرئاسة في العام 2008. تنحى بوتين في تلك الفترة وتولى منصب رئيس الوزراء، فابتعد بذلك عن الواجبات الرسمية التي تقع على عاتق رئيس الدولة والمشاكل التي ترافقها.

لكن سرعان ما اتّضح أن التجربة المشتركة التي جمعت بوتين ومدفيديف بين العامَين 2008 و2012 لم تكن سعيدة. ارتكز الاتفاق بين الرجلَين بالكامل على اتفاقيات غير رسمية بدل أن يستند إلى التزامات رسمية وثابتة. بقي مدفيديف موالياً له، لكنه احتفظ بموجب الدستور بحق إقالة رئيس الحكومة، رسمياً على الأقل.

من وجهة نظر بوتين، ظهرت المشكلة الأساسية مع اقتراب نهاية عهد مدفيديف الرئاسي والقرارات التي اضطر لاتخاذها حول هوية الرئيس الروسي اللاحق في العام 2012.

اعتبر المشاركون في الاحتجاجات الشعبية التي هزت موسكو في العامَين 2011 و2012 تلك التظاهرات تعبيراً عن الغضب من قرار بوتين الصادم والمهين بالعودة إلى الكرملين. لكنّ الاحتجاجات بنظر بوتين وأوساطه الداخلية حصلت نتيجة التخلي عن جزءٍ مفرط من السلطة وانقسام النخبة الحاكمة إلى معسكرَين: معسكر أراد بقاء مدفيديف، ومعسكر فضّل عودة بوتين. عكس هذا الوضع مظاهر "ازدواجية السلطة" في أعلى مراتب الحكم.





ظنّ بوتين أن الخطر الأساسي يتعلق بتسليم السلطة إلى شخصٍ لا يمكن الاتكال عليه للحفاظ على استقرار روسيا. ورغم ولاء مدفيديف له، إلا أنه طبّق جزءاً من صلاحيات منصب الرئاسة بكل حرية مع مرور الوقت وشكّل أوساطه الخاصة التي تنفذ أوامره وحده في الكرملين.

يميل الكثيرون في الغرب إلى تصوير مدفيديف كدمية بيد الحاكم الفعلي. لكن على أرض الواقع، كان قرار بوتين بالتنحي كفيلاً بإعطاء مدفيديف فسحة كافية لاتخاذ قرارات كبرى، حتى في مجال السياسة الخارجية. وحين اختار مدفيديف الامتناع عن التصويت على قرار محوري في مجلس الأمن يسمح لعملية غربية بإسقاط الزعيم الليبي السابق معمر القذافي في العام 2011، ثارت حفيظة بوتين. كشف هذا الحدث عن ظاهرة اعتبرها بوتين خطيرة وتشبه في تفاصيلها عهد ميخائيل غورباتشوف. اعتبر القادة الغربيون مدفيديف بديلاً أكثر تحرراً من بوتين.

في العام 2009، قبل أول زيارة يقوم بها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما إلى موسكو، بدا البيت الأبيض مستعداً للتمييز بين المسؤولَين. فأعلن أوباما في مقابلة مع وكالة "أسوشيتد برس" أن "الوقت حان للمضي قدماً في اتجاه مختلف... أظن أن مدفيديف يدرك ذلك. وأظن أن بوتين يتمسك بالأساليب القديمة في قطاع الأعمال من جهة ويحاول تبنّي الأساليب الجديدة من جهة أخرى".

هذا النوع من التعليقات زاد مخاوف بوتين ومحيطه من أن تمنح ازدواجية السلطة الغرب فرصة زعزعة استقرار روسيا عبر مجاملة واستمالة نصف بنية السلطة. كان الغرب ليتقرب من هذا النصف الذي يشير إلى "معسكر الإصلاح" ويهاجم في المقابل "المعسكر المحافِظ" بقيادة بوتين. بعد قراءة الأحداث بهذه الطريقة، كان تسليم الرئاسة إلى مدفيديف في العام 2012، أو إلى أي خلَف موثوق به في العام 2024، ليجازف بتعريض روسيا للتلاعب الغربي.


شبح يلتسين يخيّم


على عهد بوتينأكبر فرق بين روسيا في عهد بوتين وروسيا في عهد بوريس يلتسين، داعمه وسلفه، هو خوف بوتين من الغرب ورفضه له. اعتبر يلتسين سقوط الاتحاد السوفياتي شكلاً من التحرر ووضع الغرب بمصاف الشركاء. أما بوتين، فهو يسعى إلى إعادة إحياء الاتحاد بطريقة ما، لا في المجالات الاقتصادية أو السياسية بل الجيوسياسية، ما يعني أن تُمثّل روسيا القطب المضاد للغرب.

على صعيد آخر، يُعتبر نظام بوتين امتداداً لعهد يلتسين. لم يحمل أيٌّ منهما إيديولوجيا قوية وثابتة على الطيف السياسي اليساري اليميني، لكن كانت دوافعهما السياسية متشابهة: البقاء في السلطة والتلاعب بالانتخابات لضمان تهميش المعارضة. حقق يلتسين هذا الهدف بدعمٍ من الأوليغارشيين الروس لحماية الرأسمالية الروسية الناشئة والملكية الخاصة والاقتصاد الحر، لكن أراد بوتين من جهته أن يدافع عن النفوذ الدولي الذي استرجعه البلد جزئيـــاً ضد الغرب.

كان يلتسين أقرب من بوتين إلى معايير الديموقراطية والحرية السياسية الغربية. لكن لم يكن ترك منصب الرئاسة لصالح أحد الخصوم بعد الانتخابات خياراً وارداً لأي منهما لأنهما لا يعتبران هذه النتيجة هزيمة شخصية بل هزيمة لروسيا ككل.

عمل المستشار السياسي غليب بافلوفسكي مع بوتين في أولى سنوات عهده الرئاسي وأعلن يوماً أن أساس النظام السياسي الروسي المعاصر يكمن في سلسلة من استراتيجيات الحملات الانتخابية المتلاحقة التي تشكّل طبقات تقليدية تحت سطح الواقع المعاصر. هذا الوضع يعود إلى العام 1993، حين تبنّى يلتسين الدستور الحديث الذي يعطي معظم الصلاحيات للرئيس بموازاة الانتخابات البرلمانية الجديدة.

أضاف بافلوفسكي: "تشتق الأسس الحقيقية لدولة روسيا من الارتجالات التي رافقت الحملات الانتخابية وأصبحت منسيّة اليوم. كانت الانتخابات الرئاسية تُغيّر الأنظمة، لكن لم يكن مصدر التغيير يكمن في برنامج الفائزين بل في التقنية السياسية المستعملة خلال الحملة. كانت الأفكار المرتجلة التي تنشأ في مقر الحزب تصبح راسخة بعد الانتخابات".

كل استحقاق انتخابي ينتج تغيرات دائمة. وبحلول العام 2024، سيصبح وجود بوتين في السلطة قديماً لدرجة ألا يشبه النظام السياسي الروسي ما كان عليه حين وَرِثَه من يلتسين، علماً أن بوتين تلاعب بمؤسساته لتحقيق أهدافه.

لكنّ التغيرات الدائمة التي تُحدِثها الانتخابات لا تحل مشكلة العملية الانتقالية في أعلى مراتب السلطة أو تأثير شخصية الرئيس التي توازي بأهميتها البناء الدستوري الذي تستند إليه.

يدرك بوتين جيداً أن جميع القادة الروس تقريباً، بدءاً من رئيس الحكومة السوفياتي السابق نيكيتا خروتشوف وصولاً إلى ليونيد بريجنيف وغورباتشوف ويلتسين، كسبوا شرعيتهم على مر القرن الماضي من خلال التشديد على إطلاق مسار جديد وإخبار الرأي العام بأنهم يسعون إلى محو عيوب أسلافهم. اليوم، ينسب بوتين الأخطاء الكارثية إلى الرجل الذي اختاره وريثاً له من دون تسميته مباشرةً. يريد بوتين حتماً أن يتجنب هذا المصير ولن يقبل بأن يصبح في نهاية المطاف الحاكم السابق المسكين الذي يخسر عند مقارنته بزعيم روسيا المقبل.

يواجه بوتين خيارَين أساسيَين في العام 2024: تسليم السلطة إلى خَلَف له يخضع لسيطرته الكاملة أو البقاء في السلطة إلى أجل غير مُسمّى. تُعتبر هواجسه المرتبطة بتاريخ بلده الحافل سبباً مهماً وراء قراره المصيري بتفضيل الخيار الثاني.

لا أحد سوى بوتين يستطيع التأكيد على نيّته هذه حتى اقتراب موعد الانتخابات المقبلة. يكثر الكلام منذ الآن في موسكو حول تقديم موعد الانتخابات المقررة في العام 2024 وتحديدها في بداية العام 2021 مثلاً. في مطلق الأحوال، يرتكز رهان بوتين الأساسي على قناعة راسخة مفادها أن قوته الشخصية تزيد قوة روسيا وتُخفّض احتمال نشوء نسخة متطورة من "البيريسترويكا" (برنامج "إعادة الهيكلة" الذي أطلقه ميخائيل غورباتشوف لإعادة بناء اقتصاد الاتحاد السوفياتي). لكن من خلال تفضيل ما يعتبره بوتين الخيار الأكثر أماناً على الصعيدَين المحلي والجيوسياسي، قد يحكم على روسيا بحقبة جديدة من الركود، فيصبح عن غير قصد عرّاب "البيريسترويكا" التي يسعى أصلاً إلى تجنّبها.


MISS 3