ماكس بيرغمان

صحوة جيوسياسية في أوروبا

25 آب 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

أصبحت أوروبا كياناً جيوسياسياً منذ التسعينات. وبما أنها تملك أكبر اقتصاد في العالم وتشمل 450 مليون نسمة وتتساوى مع روسيا من حيث الإنفاق الدفاعي، يسهل أن تصبح هذه القارة عملاقة على جميع المستويات. لكن لم تقترب أوروبا يوماً من مضاهاة النفوذ الذي تتمتع به بلدانها الفردية مُجتمعةً. يواجه الاتحاد الأوروبي اضطرابات وأزمات اقتصادية وسياسية ومؤسسية مزمنة وقد بقي تأثيره ضئيلاً على الشؤون العالمية. في الوقت نفسه، شهدت أقوى الدول الأعضاء في أوروبا تراجعاً في نفوذها، كما حصل مع فرنسا، أو رفضت تولي قيادة العالم كما فعلت ألمانيا. نتيجةً لذلك، أصبح الضعف الأوروبي أمراً مفروغاً منه بنظر المحللين الأميركيين. لم تكتفِ بروكسل بتخييب آمال واشنطن حين رفضت تقاسم المزيد من أعباء الأمن الجماعي، بل إنها بذلت جهوداً أقل من ثقلها الدبلوماسي الحقيقي في مجال الاستيراد العالمي.

اليوم، بدأت أوروبا تنهض فجأةً. يبدو أن وباء "كوفيد - 19" المستجد أيقظ القارة من سبات اقتصادي وسياسي قائم منذ عقود طويلة وجدّد مشروع التكامل في الاتحاد الأوروبي بطرقٍ لم يكن أحد يتوقعها منذ ستة أشهر فقط. قد تُمهّد هذه الأزمة لنشوء نسخة أوروبية صارمة وواثقة من نفسها على الساحة العالمية، فتسهم في ترسيخ النظام العالمي ورسم معالمه في القرن الواحد والعشرين.

بروكسل تطلق العنان لنفسها!

في البداية، أدى فيروس "كوفيد - 19" إلى تدمير أوروبا ومعظم أجزاء العالم. لكن بعد الالتزام بتدابير الإقفال التام الصارمة وتطبيق توصيات العلماء ودعم أجور العمال، استطاع الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه السيطرة على الوباء نسبياً وتجنب الانهيار الاقتصادي. في المقابل، اكتسبت أوروبا امتيازات عالمية وثقة عالية بالنفس. في الأشهر الأخيرة، اتخذ القادة الأوروبيون سلسلة من الخطوات الصارمة. بعدما فرضت الصين قانون الأمن القومي الجديد على هونغ كونغ في حزيران الماضي، أدان الاتحاد الأوروبي موقفها واعتبر القانون "مشيناً". كذلك، وافق الاتحاد الأوروبي على الحد من صادرات المعدات الحساسة إلى هونغ كونغ، على غرار التكنولوجيا التي يمكن استخدامها للمراقبة. وفي شهر تموز، فرض الاتحاد للمرة الأولى عقوبات إلكترونية على الصين وروسيا وكوريا الشمالية. وخلال هذا الشهر، أدان القادة الأوروبيون الانتخابات المزورة في بيلاروسيا وأطلقوا حواراً مع الكرملين لمنع التدخل الروسي.

لكنّ أهم خطوة اتخذها القادة الأوروبيون منذ بداية الوباء تتعلق بتمرير حزمة بقيمة تريليونَي دولار للتعافي الاقتصادي. عمد الاتحاد الأوروبي دفعةً واحدة إلى إنهاء عشر سنوات من خطة التقشف الاقتصادي الساحقة التي أدت إلى توسّع النزعة الشعبوية وتراجع الدعم للاتحاد وإضعاف اليورو وجعله على حافة الانهيار الاقتصادي الدائم. إلى جانب الإنفاق التحفيزي الضخم في الدول الأوروبية الفردية، تسهم حزمة الإنقاذ في وضع أوروبا على طريق التعافي الاقتصادي القوي، كما أنها تفتح المجال أمام توسّع القوى الفدرالية في الاتحاد الأوروبي. قد تسمح هذه الصفقة للاتحاد بالاقتراض وفرض الضرائب والإنفاق بقدر الدول الفعلية. إذا نشأت أزمة أخرى (وباء، ديون، موجة هجرة، أو أي مشكلة مختلفة)، سيكون الاتحاد الأوروبي قادراً على استعمال الموارد اللازمة للتجاوب معها.

لم يسبق أن حصد الاتحاد الأوروبي هذا الكم من الصلاحيات يوماً. تطورت عملية التكامل في أوروبا وأنتجت بنية اتحادية أكثر قوة لكن بوتيرة متقطعة منذ الحرب العالمية الثانية، وكانت فترات طويلة من الركود تلي أي تقدم كبير دوماً. منذ أن أصبحت معاهدة لشبونة التي تُحدد قواعد الاتحاد الأوروبي سارية المفعول في العام 2009، بقيت أوروبا عالقة داخل نظام سياسي هجين يتراوح بين دولة اتحادية ومنظمة متعددة الجوانب. في المجالات التي اكتسب فيها الاتحاد الأوروبي النفوذ، أصبحت بروكسل لاعبة عالمية. هذا ما حصل مثلاً في مجال تنظيم الأسواق العالمية. لكن لطالما تعثّر الاتحاد الأوروبي حين يحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء فيه، حتى في شؤون السياسة الخارجية.

مهّد الاتفاق على حزمة التعافي لظهور مجموعة جديدة من الاحتمالات. حين واجه القادة الأوروبيون أزمة اقتصادية هائلة، أبدوا استعدادهم فجأةً لتوسـيع صلاحيات بروكســل عبر إعادة تفســير قواعـــــد الاتحاد الأوروبي على الأرجح. يدعو بعض صانعي السياسة في الاتحاد إلى التخلي عن مبدأ الإجماع لاتخاذ قرارات السياسة الخارجية وتطبيق مبدأ "الأغلبية المؤهلة". يتطلب هذا التغيير إجماعاً من الدول الأعضاء في الاتحاد، وهو موقف مستبعد في الوقت الراهن. لكن من الواضح أن وباء "كوفيد - 19" بثّ روحاً جديدة في التحالف الفرنسي الألماني الذي يدافع تاريخياً عن أهمية تقوية الاتحاد الأوروبي. إذا عجز هذا الاتحاد، بسبب نظامه الهجين، عن تصميم مقاربة أكثر قوة وتماسكاً في مجال السياسة الخارجية، من المتوقع أن يدعو قادته، لا سيما الفرنسيون والألمان، إلى تطبيق الإصلاحات بقوة غير مسبوقة.





أوروبا أولاً!

لم تحصــــــل هذه الصحـــــوة الجيوسياســــــية في أوروبا بلمــــح البصر. بعـد احتدام المنافســـة الأميركية الصينية في عهد دونالد ترامب، بدأت أوروبا تُعدّل طريقة تعاملها مع عالمٍ يتأثر بدرجة متزايدة بالمنافسة القائمة بين القوى العظمى. نتيجةً لذلك، راح الاتحاد الأوروبي يتناقش حول مفهوم "الاستقلالية الاستراتيجية" التي تدعو أوروبا إلى الدفاع عن سيادتها وإبداء مصالحها الخاصة بمعزل عن الولايات المتحدة. لكن في ظل انتشار الوباء المستجد، لا تبدو الاستقلالية الاستراتيجية مجرّد مفهوم قد يتجادل قادة الاتحاد الأوروبي حوله، بل إنها أقرب إلى سياسة عاجلة يجب إقرارها في أسرع وقت. بدل الاتكال على الحليف الأميركي الذي زاد فظاظة في عهد ترامب أو الصين التي تزداد عدائية سعياً وراء قيادة العالم، اقتنع القادة الأوروبيون بضرورة أن يتطلعوا إلى أوروبا.

ينجم جزء من هذا التغيير عن التعامل الأميركي الكارثي مع أزمة "كوفيد - 19" تزامناً مع خروج الاضطرابات العرقية عن السيطرة في الشوارع الأميركية. سبق وتعثّر الدعم الأوروبي للتحالف العابر للأطلسي نتيجة تجاوزات الولايات المتحدة في "حربها على الإرهاب" وفشل غزو العراق والأزمة المالية في العام 2008. لكنّ إخفاقات إدارة ترامب الأخيرة تُشكك بقدرة الولايات المتحدة على حكم نفسها أكثر من أي وقت مضى. يشعر صانعو السياسة الأوروبيون بالقلق من أن تبقى الولايات المتحدة منشغلة بمشاكلها الداخلية، حتى لو فاز نائب الرئيس السابق جو بايدن في تشرين الثاني المقبل، فلا تستطيع أوروبا حينها أن تتكل على الدور الأميركي في قيادة العالم.

لكنّ تغيير الوجهة الأوروبية يشكّل في الوقت نفسه رداً على الصين. لطالما تعاملت أوروبا مع بكين من منظور اقتصادي وكانت تتمنى أن يسهم عاملا الانفتاح والتجارة في توجيه الصين نحو التحرر السياسي أو حتى الديموقراطية. لكن أصبحت سياسة الصين ضيقة بدرجة إضافية تزامناً مع ازدهار اقتصادها. تبيّن أن الانفتاح خيار أحادي الجانب، فزادت خيبة الأمل من الممارسات التجارية الصينية غير المنصفة في أوروبا، كما في الولايات المتحدة. جاء الوباء أيضاً ليقلب الرأي العام الأوروبي ضد الصين نهائياً. حاولت بكين أن تخفي أصل الفيروس. وحين خرج عن سيطرتها محلياً، أطلقت حملة عدائية مبنية على دبلوماسية "الذئب المحارب"، ما أثار قلق الأوروبيين وأبعدهم عن المحور الصيني.

من الواضح أن تغيّر نظرة أوروبا إلى الولايات المتحدة والصين ساعد الأوروبيين على استرجاع قوتهم فجأةً في مجال السياسة الخارجية، لكن تغيرت نظرة أوروبا إلى نفسها أيضاً. كان فيروس "كوفيد - 19" كفيلاً بإقناع أغلبية واسعة من الأوروبيين بحاجتهم إلى توسيع هامش التعاون داخل الاتحاد الأوروبي. وحين لاحظ القادة الأوروبيون هذا التحوّل في وجهة الرأي العام، لم يترددوا في اتخاذ خطوات اقتصادية جذرية. انطلقت أوروبا في هذا العقد الجديد بثقة مضاعفة بوحدتها وثقة متناقصة بالآخرين.





قــــــرن أوروبــــــي فــــــي الأفــــــق؟

لن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى قوة عظمى بين ليلة وضحاها وقد لا يفعل مطلقاً. حتى أن المشروع الكبير الذي يقضي ببناء اتحاد فيدرالي قد يبقى مجرّد خطة قيد التنفيذ. يواجه الاتحاد الأوروبي حتى الآن تحديات داخلية هائلة، بدءاً من تنامي نفوذ السياسيين الشعبويين واستمرار قوة الدولة القومية، وصولاً إلى الاختلافات الاقتصادية بين الشمال والجنوب، والعجز الديمقراطي الداخلي الذي يبرر التشكيك بقدرات بروكسل. مع ذلك، لا مفر من أن تصبح أوروبا لاعبة عالمية قوية وموحّدة بدرجة غير مسبوقة عند خروجها من هذه الأزمة.

إنها أنباء سارة للولايات المتحدة. تستطيع أوروبا أن تصبح شريكة مهمة للأميركيين، لا سيما في ظل احتدام الخصومة الأميركية الصينية. يتعين على واشنطن أن تُشجّع أوروبا على ترسيخ قوتها في المجالات التي تبرع فيها ويجب أن توقف أيضاً هوسها بالنواقص الأوروبية، على غرار الجيوش الفاعلة، وتُركّز في المقابل على مزايا أوروبا: سلك دبلوماسي بارع، أكبر اقتصاد في العالم، هيبة عالمية متزايدة. قد لا يكون القرن الواحد والعشرون أوروبياً بشكل خاص، لكن على أوروبا أن تضطلع بدور قيادي كي يتخذ هذا القرن منحىً ليبرالياً.