ولي نصر

الدبلوماسية هي المخرج الوحيد من مستنقع الشرق الأوسط

3 أيلول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

لطالما اعتبرت الولايات المتحدة احتواء إيران محور جهودها في الشرق الأوسط، بدءاً من نشر القوات العسكرية وصولاً إلى الصفقات الدبلوماسية. لكنّ سياسة الاحتواء فشلت في معظمها حتى الآن. منذ العام 2018، انسحبت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي المُبرَم في العام 2015 وفرضت ضغوطاً قصوى على إيران، حتى أنها نقلت 20 ألف جندي إضافي إلى الشرق الأوسط. لكن التهديد الإيراني تنامى رغم هذه التدابير كلها. وسّعت إيران برامجها النووية والصاروخية وزادت استثماراتها في العملاء والطائرات المتطورة بلا طيار والقدرات السيبرانية. يزعم منتقدو الاتفاق النووي الإيراني أن تلك الصفقة فشلت في كبح التهديدات المطروحة ويصرّون على ضرورة أن يعالج أي اتفاق جديد مع طهران تلك المسائل العالقة.

لا تزال التسوية الشاملة خياراً غير واقعي. لن تتخلى إيران بسهولة عن مواردها الاستراتيجية بعدما كلّفتها الكثير من الوقت والمال وستتردد حتماً في تقديم تنازلات كبرى بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي. لذا من الأفضل أن تطلق الولايات المتحدة جهوداً دبلوماسية متواصلة لحل النزاعات المتعددة وعقد اتفاقيات أساسية للحد من التسلّح.

قد تسهم هذه العملية في بناء الثقة اللازمة لحث إيران على التوصل إلى اتفاقيات واسعة مع الولايات المتحدة والبلدان المجاورة لها. قد لا يميل الرئيس ترامب إلى استعمال الدبلوماسية مع طهران، لكن يُفترض أن تدرك أي إدارة أميركية جديدة أن شيئاً لن يُخفف الاضطرابات ويحل الخلافات ويُضعِف التهديدات إلا تغيير المقاربة المعتمدة في الشرق الأوسط.

يجب أن يصبح استقرار الشرق الأوسط الهدف الأساسي للدبلوماسية الأميركية في هذه المنطقة. بعد تحقيق ذلك الهدف، تستطيع الولايات المتحدة تقليص وجودها العسكري بسهولة. في العام 2015، لم يدرك الأميركيون حقيقة الوضع بل اعتبر المسؤولون الاتفاق الإيراني وسيلة لتسريع انسحاب القوات الأميركية بغض النظر عن الاضطرابات القائمة. لتهدئة الحلفاء القلقين، سمحت واشنطن ببيع أسلحة تفوق قيمتها 30 مليار دولار إلى دول الخليج، وهي زيادة كبرى في عمليات نقل الأسلحة الواسعة أصلاً إلى تلك الدول. ردّت إيران على ذلك الحشد العسكري بزيادة استثماراتها الخاصة في الأنظمة الصاروخية والقوى الموالية لها وقدرات التسلّح المتقدمة. لم يتزعزع استقرار المنطقة نتيجة الاتفاق النووي كما يزعم منتقدوه إذاً، بل بسبب تصاعد سباق التسلّح في المنطقة بتشجيعٍ من الولايات المتحدة.

لإرساء الاستقرار الإقليمي المنشود وتسهيل الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، يتعين على واشنطن أن تتبنى مقاربة جديدة تأخذ في الاعتبار مخاوف القوى الإقليمية، بما في ذلك إيران. تستطيع الولايات المتحدة أن تبدأ بتجديد التزامها بالاتفاق النووي الإيراني من العام 2015 كونه يمنحها الضوابط التي تحتاج إلى فرضها على برنامج إيران النووي مقابل تخفيف العقوبات بعدما ترضخ طهران للشروط المطلوبة منها. لن تتمكن الولايات المتحدة من عقد محادثات أخرى وتشديد إجراءاتها قبل هذه المرحلة. لكن يجب أن يحاول المسؤولون الأميركيون في الوقت نفسه إخماد النزاعات الإقليمية، على غرار الحرب في اليمن. لتحقيق هذا الهدف، على الولايات المتحدة أن تدرك أولويات جميع اللاعبين في المنطقة.

يعتبر كبار خصوم طهران (أي المملكة العربية السعودية والحليفتان الجديدتان إسرائيل والإمارات العربية المتحدة) أن صواريخ إيران وعملاءها دليل على أجندة توسعية. لكن تعتبر إيران إمكاناتها ضمانات ضرورية للتصدي للتفوق العسكري التقليدي الذي يتمتع به خصومها. تعكس تحركات طهران في المنطقة عمق المخاوف التي تنتاب الدولة الفارسية المحاطة بقوى سنّية مدعومة من الولايات المتحدة. لا تزال ذكرى غزو العراق واحتلال أجزاء من جنوب غرب إيران خلال الثمانينات تؤثر على الرؤية الاستراتيجية الإيرانية حتى الآن. منذ الحرب الإيرانية العراقية الدموية، اكتسبت إيران الحلفاء والعملاء ونشرت مراكز لها في البلدان العربية كجزءٍ من استراتيجية "الدفاع الأمامي"، كما يسمّيها الإيرانيون.

كان انهيار النظام في العالم العربي منذ الغزو الأميركي للعراق كفيلاً بتشجيع إيران على تنفيذ هذه الاستراتيجية، لكنه شجّعها أيضاً على توسيع طموحاتها في المنطقة. في السنوات الأخيرة، احتجّ الناس في العراق ولبنان على التدخل الإيراني في البلدَين. وأدى تصاعد التوتر مع إسرائيل إلى اندلاع حرب استنزاف ضمنية اتّضحت معالمها في القصف الإسرائيلي للأهداف الإيرانية في العراق وسوريا، والتفجيرات الغامضة في المنشآت الإيرانية النووية والصاروخية، والاعتداءات الإلكترونية المتبادلة. تخشى إسرائيل أن يؤدي توسّع النفوذ الإيراني في سوريا إلى محاصرتها لأن إيران تحظى أصلاً بدعم "حزب الله" في لبنان وحركة "حماس" في قطاع غزة.

لكن لا تريد طهران تأجيج القومية العربية المعادية لإيران ولا ترغب في خوض الحرب مع إسرائيل. إذا أرادت إيران التراجع عن استراتيجية الدفاع الأمامي، فيجب أن تحاول التصالح مع خصومها الإقليميين. تبقى المفاوضات المباشرة بين إيران وإسرائيل مستبعدة، لكن قد تنجح المفاوضات بين إيران وخصومها العرب في إخماد جزءٍ من المخاوف الإسرائيلية. تسمح الاتفاقيات الإقليمية التي تحصر نطاق الصواريخ في الترسانة الإيرانية مثلاً بتهدئة المخاوف التي تحملها البلدان العربية المجاورة لإيران وإسرائيل أيضاً.



كيف تعود طهران إلى طاولة المفاوضات؟

تستطيع الولايات المتحدة أن تُشجّع إيران على التحول إلى قوة بناءة في المنطقة إذا حرصت على فهم مصالح طهران. تريد إيران أن تنهي الولايات المتحدة سياسة الاحتواء وتسحب معظم القوات الأميركية من المنطقة وتعترف بإيران كقوة إقليمية لها مصالح مشروعة. في آخر أربعين سنة، اتكلت إيران على أسلوب المواجهة لكنّ النزعة القتالية لم تساعدها على تحقيق أهدافها. كاد مقتل قاسم سليماني، الجنرال الإيراني المسؤول عن تنفيذ استراتيجية المواجهة، يوصل إيران والولايات المتحدة إلى الحرب، كما أنه أوضح حدود المقاربة الإيرانية. أدت السياسة الخارجية الإيرانية العدائية إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاضطرابات السياسية محلياً. من الأسهل على قادة إيران أن يتعاملوا مع هذه النتائج السلبية إذا عرضت عليهم الولايات المتحدة مساراً بديلاً. من المعروف أنهم يشككون باقتراحات الأميركيين ووعودهم بالتسوية. لكن كما حصل حين تعاملت إيران مع إدارة أوباما، لن يعيق القادة الإيرانيون الجهود الدبلوماسية الجدّية التي تُقرّبهم من الأهداف التي فشلوا في تحقيقها حتى الآن.

يُفترض أن تنطلق العملية الدبلوماسية اللازمة عبر هندسة دقيقة للمحادثات التي تجمع بين إيران والأنظمة الملكية الخليجية والولايات المتحدة. ويجب أن تتخذ المفاوضات مسارَين. على الدبلوماسيين أن يسعوا إلى تجديد استقرار المنطقة عبر إنهاء الصراعات في سوريا واليمن وتدعيم الدول الهشة في العراق ولبنان من خلال فرض ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة. سبق وطبّقت السعودية وإيران هذه المقاربة عبر إقرار اتفاق الطائف في العام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية. وحققت إيران والولايات المتحدة هدفاً مشابهاً عبر اتفاقية بون في العام 2001 لإعادة تشكيل أفغانستان غداة سقوط حركة "طالبان".

على المفاوضين أن يعالجوا أيضاً المخاوف المرتبطة ببرنامج إيران الصاروخي وطريقة استخدامها للعملاء، ويجب أن يحاولوا عقد اتفاقيات إقليمية حول النطاق المسموح به للصواريخ وحجم الحشد العسكري التقليدي ومستوى استخدام تقنيات الأسلحة الجديدة. قد تسهم هذه الاتفاقيات في إقناع طهران مثلاً بتخفيف دعمها لعملائها في المنطقة. تُقيّم إيران استثماراتها في تلك الجماعات مقارنةً بالإمكانات العسكرية التي يملكها خصومها. وإذا تراجعت مخاوفها من أعدائها، قد تشعر بأنها غير مضطرة لدعم عملائها بالقدر نفسه في العراق ولبنان وسوريا واليمن.

قد يحرز المفاوضون التقدم في مساعيهم الرامية إلى حل الصراعات الإقليمية من جهة والحد من تطوير الأسلحة النووية واندلاع الحروب بالوكالة من جهة أخرى. ربما يُمهّدون بهذه الطريقة لعقد اتفاقيات أوسع، بما في ذلك اتفاق حول الأمن البحري في منطقة الخليج بين إيران والدول الخليجية والولايات المتحدة. في نهاية المطاف، يُفترض أن يتمحور الهدف الأساسي حول صياغة إطار أمني إقليمي: إنه ترتيب خاص بالشرق الأوسط يشبه "منظمة الأمن والتعاون" في أوروبا أو الاتحاد الإفريقي.





حان وقت الدبلوماسية!

بدأت الولايات المتحدة تعيد النظر بسياستها في الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى منذ الثورة الإيرانية في العام 1979. يبدو أن العجز المحلي المتفاقم والمواجهة المرتقبة مع الصين يدفعان الولايات المتحدة إلى الانسحاب من المنطقة التي خسرت جزءاً كبيراً من أهميتها الاستراتيجية برأي جميع الأطراف المعنية.

على صعيد آخر، بدأت القوى البنيوية التي تدفع واشنطن إلى إعادة التوازن لأولوياتها العالمية تؤثر على الشرق الأوسط. إجتاح فيروس كورونا المستجد إيران وجعل الاقتصاد المحلي المتعثر أصلاً على حافة الانهيار. كذلك، تضررت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها من تراجع أسعار النفط والانكماش الاقتصادي العالمي المطوّل. من المتوقع أن تفرض ضخامة الكارثة تحولات كبرى على الأولويات الوطنية. ستتراجع رغبة إيران ودول الخليج في متابعة سباق التسلّح أو المبالغة في إنفاق المال مقابل خدمات العملاء الإقليميين. بدأت المحادثات أصلاً بين إيران والإمارات العربية المتحدة، وتميل طهران والرياض على ما يبدو إلى إنهاء الحرب في اليمن. في غضون ذلك، سحبت طهران جزءاً من قواتها العسكرية من سوريا وتراجعت في العراق، حتى أنها دعمت انتخاب رئيس وزراء تؤيده الولايات المتحدة.

أصبحت الظروف مؤاتية إذاً لإطلاق الجهود الدبلوماسية القادرة على تقليص الاضطرابات الإقليمية وترسيخ الاستقرار في المنطقة. على الولايات المتحدة أن تستغل هذه المرحلة وإلا ستجازف بتبديد فرصة نادرة وواعدة.