نوال نصر

الحكّام دمى والغضب عابر والملائكة كثر

روني مكتف: فقدتُ عيني فاكتشفتُ ذاتي

8 أيلول 2020

02 : 00

أن تسأل إنسان فقد، في ثوانٍ، نظره وبصمت الندوب العميقة وجهه: كيف حالك؟ فيجيب بابتسامة: "علمتني الحياة، مهما قست، سمة القبول، والحياة لا تعطي دروساً مجانية لأحد" لهو أمرٌ كفيل أن يهز أي إنسان، له قلب ومشاعر، من الداخل. روني مكتّف، الشاب الذي عبث عصف انفجار بيروت بمعالم وجهه وفتك بعينه اليمنى، قصدناه لسؤاله عن الغضب الذي في داخله فمنحنا طمأنينة نفتقدها. غريبٌ حقا هذا الإنسان. قوي جداً بدا.

عصر ذاك اليوم، في الرابع من آب، بينما كان المعالج النفسي روني مكتف في زيارة صديقة تقطن في شارع الجميزة، دوى أول انفجار، سارع لرؤية ما حصل، فدوى الإنفجار الثاني وكان ما كان.

صورة ٌ له انتشرت عبر السوشيل ميديا "هدّتنا" لوهلة، قبل أن تعود وتقوّينا بعد أن حدقنا فيها أكثر. وجهه وجهان، واحد، لجهة اليمين، فيه بصمات الإنفجار وخطوط الطول والعرض التي أطفأت عينه اليمنى، وواحد، لجهة اليسار، فيه غضب هائل مع كثير من العنفوان والكرامة. صورة اختصرت الكثير وغاص في تحليلها كثيرون. فماذا في أبعاد تلك الملامح والمشاعر؟ ماذا عن صاحب تلك الصورة؟



إرادة لا تعرف الإستسلام



يتحدث الشاب الغاضب في الصورة بسلامٍ هائل. عاش في الخارج 25 عاماً وعاد الى لبنان في العام 2010 ليُداوي من يحتاج من اللبنانيين الى علاج نفسي. قرّر أن يعود ليبقى هنا. واختار البلدة البترونية راشانا موقعاً يرتاح فيه ويفيد من يحتاجون الى علاجات. هو قدره أن يعود الى هنا، الى لبنانه، وأن يكون في تلك اللحظة في منطقة الجميزة، المتكئة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، قبالة ميناء بيروت. يومها، في تلك الثواني، لحظة دوى الإنفجار الكبير، وقذفه على الحائط ثم الأرض، شعر بألم هائل في جبينه، ألم لم يشعر به قط في حياته، راح يشتد ويشتد. خال أن الإصابة في الرأس، في الجبين، في الصدغ، لكنه لم يتخيّله في العين. لم يتخيل أن عصب عينه انقطع وأنها "فقعت" من هول العصف. لم يغب عن الوعي. أمسك بمنشفة ووضعها على وجهه. ثوان وأصبحت بلون الأحمر القاني. الدم كان يسيل من وجهه كشلال. أراد أن يذهب الى المستشفى. خرج متكئا على صديقته المصابة أيضاً. الدمار بدا هائلاً. الناس على الطرقات. الدم كثير. ذعر وخوف وضياع. فجأة، في ثوان، ظهر شاب، كما الملاك، على دراجة نارية وأقله وصديقته الى مستشفى القديس جاورجيوس. هناك كان المشهد فظيعاً. غادرا وفجأة ظهر ملاك ثان تجسد براهبة أقلتهما الى مستشفى الجعيتاوي. وهناك كان المشهد أيضا فظيعاً. وفجأة وصله اتصال من صديق من النبطية، كان الملاك الثالث، قال له سأوافيك وانتقل بك الى مستشفيات صيدا. وهذا ما تمّ. هناك، في صيدا، في مستشفى دلاعة، خضع الى جراحة عاجلة، على مدى ساعتين، على يد الإختصاصي في جراحة العيون الدكتور أحمد مقدم. كان طبيبا ممتازاً. أشبه بملاكٍ رابع.

ثمة سلام داخلي رهيب داخل هذا الشاب. هو، بطبيعته، إيجابي، ينظر الى النصف الملآن من الكوب، لكن أن تصمد فيه الإيجابية وهو يدفع، من اللحم الحيّ، ثمن عدم مسؤولية حكام هذا الزمان فهذا يستدعي أكثر من سؤال. فهل نفهم أنه لم يغضب؟ لم يتذمر؟ هل لنا أن نفهم أكثر سرّ هذا القبول؟



الأمل لا ينضب (فضل عيتاني)



روني سافر بعيد الحادث الى بلجيكا. هناك أخبره الطبيب أن عينه تأثرت، وقد يصمد منها 10 في المئة، أو 5 في المئة، أو لا شيء. يخبرنا بذلك بسكونٍ رهيب وقبل أن نسأله يقول، كمن يشعر بحيرتنا: "منذ حصول الإنفجار قررتُ قبول كل النتائج. واشدد على كلمة "القبول" لا الرضوخ. قررت ان تكون تجربتي السلبية، القاسية، معبراً نحو شيء جميل. قرّرت خلال أيام قليلة أن أخرج من شرنقة ما حصل الى رحاب أوسع بأن أؤسس لمشروع كبير، لمؤسسة تعالج كل من يقعون تحت الصدمات "التروما"، وكل من عاشوا او يعيشون تحت تأثيرات الحرب. آمنتُ، بصدق، منذ اللحظات الأولى أن الضربة التي لا تقتل تقوي. أنا الآن أقوى وحماستي هائلة ومشروعي المقبل سيكون للناس، لأجلهم، سأضع فيه كل جهدي وما يتوفّر لي من قوة".

نفرك عيوننا. نفرك آذاننا. نفكر أكثر. ننظر الى روني. ننظر الى النصف الأيمن من وجهه. ننظر الى عينه الخضراء اليسرى المشعة. ننظر في وجهه المليء بالعنفوان ونعود لنسأله: ألم تشعر بتجاذبٍ في داخلك؟ ألم تشعر بغضب ولو لساعات وأيام؟ يجيب "في داخلنا كمّ من المشاعر، والغضب أحدها. هناك مشاعر الحزن أيضاً". ويستطرد: "الغضب شعور لا بدّ منه أحياناً، لا بل هو ضروري كي نتمكّن من العبور الى مرحلة الإعمار والبناء. الغضب حالة طبيعية شرط ألا يصل الى مرحلة تدمير الذات. بالنسبة إليّ، لم أسمح لحالة الغضب بأن تتملكني، لم اعطها هذا الخيار، بل جعلتها بمثابة منطلق للبناء. أصررت، بدل بقائي في خانة الغضب على أن أتعافى. حاولت أن أستعين بالفرح بدل الرضوخ الى الحزن. ثمة من يقول حين يشاهد إنسانٌ فقد عينه وهو يعاني ويتحدّث عن الفرح: "آكل ضربة على رأسو" أما أنا فأجيبه: "الفرح حالة روحانية نفسية لا بُدّ منها لنصمد ونعيش".





روني مكتف قد يرى بنسبة عشرة في المئة، أو خمسة، أو لن يرى مجدداً. هو يعرف هذا وتقبل الأمر وانطلق من هذا الواقع الى المرحلة التي يفترض أن تلي. وفي هذه المرحلة جلس مع نفسه. فكّر بما أصابه. وفكّر "ببكرا". عاد وكرر لنفسه: "يلّي ما بيقتلنا بيقوينا". هو يعرف أن الإنسان، مطلق إنسان، لديه صورة عن ذاته، من الداخل والخارج. وحين ينظر في المرآة ولا يرى نفسه، أو يرى نفسه في صورة مشوّهة، يشعر بجرح كبير في العين والقلب. عليه أن يقبل التعوّد على الصورة الجديدة والشخص الذي في الصورة، الشخص الجديد. عليه أن يقبل أنه تغيّر. وهذا ما فعله. قرّر أن يعود الى الحياة ويساعد بعدما خال في تلك اللحظات، عصر ذاك الثلاثاء المشؤوم انّ كل شيء، كلّ شيء قد انتهى، وأنّ مهمّته أنجزت. كتبت له السماء عمراً جديداً ويفترض انه يستحق هذا العمر.

ملائكة كثر وضعوا في طريقه، كلّ من هؤلاء يصلي على طريقته، يجمعهم عنصر مشترك وهو "مدّ يد العون في أكثر اللحظات ضيقاً". وهنا يعلّق روني بصوتٍ يسوده التسامح: "لا أعتبر أنّ ما عشته "مهول" أكثر مما اختبره كثر غيري. أشكر الله على عائلتي التي منحتني قوّة الاستمرار. أفراد أسرتي وأصدقائي ومعارفي والملائكة الذين ظهروا على دربي كانوا قوتي التي تحدّيت بها ما ألمّ بي وسأثابر بها لتجاوز محنتي".

ألا يتخلل كل هذا السلام والقوة والتحدي بعض النقمة؟. يجيب بنبرةٍ واثقة: "صدّقيني، فكرتُ كثيراً بهذا الأمر لكنني عدتُ وحذفت كل شعور بالغضب الحانق من بالي بعدما أيقنت أنّهم مجرّد "دمى"... فلنغيّرهم إذاً، فلنغير النظام وحينها تلتئم ندوب كثيرة".

أجرى روني حتى الآن ثلاث عمليات، وهو على موعدٍ قريباً مع عمليةٍ جراحية رابعة. ومنذ تلك اللحظة، منذ فار الدم شلالاً من جبينه وعينه ووجهه، لم يعد الى الجميزة. وغداً، بعد يومين أو ثلاثة، حين يعود من السفر سيتوجّه مباشرة الى راشانا فأمامه الكثير من العمل، وهو مَن تحدّى ونجح وتمكّن من "رؤية ذاته" في أعماقها الدفينة، هو الذي أدرك بيقينٍ تام وبالملموس بأنّ "العين قد ترى كلّ شيء إلا ذاتها"...