شيوي وانغ

دروس مستخلصة من ثلاث سنوات في سجن إيراني

10 أيلول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 02

في آب 2016، بعد وقتٍ قصير على اعتقالي من جانب وزارة الاستخبارات الإيرانية، سألني أحد المحققين عن رأيي بالعداوة القائمة بين إيران والولايات المتحدة. فأخبرتُه صراحةً بأنني، على غرار عدد كبير من الأميركيين، لا أظن أن البلدَين يجب أن يكونا عدوَّين. حتى أنني كنتُ مقتنعاً حينها بضرورة أن يزور الرئيس باراك أوباما طهران ويفتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، كما فعل الرئيس ريتشارد نيكسون حين قصد بكين في العام 1972. فسخر المحقق من كلامي وقال لي إن أي رئيس أميركي ليس مرحّباً به في بلده.

تغيرت نظرتي إلى العلاقات الأميركية الإيرانية وطبيعة النظام الإيراني تدريجاً على مر الأشهر الأربعين التي أمضيتُها في سجن "إيفين" المعروف بسمعته السيئة في طهران. كنتُ شاهداً هناك على أفعال النظام الحقيقية من الداخل وتعلّمتُ دروساً مهمة نتيجة تواصلي مع السجناء الآخرين: إنهم رجال إيرانيون من مختلف مجالات الحياة وسبق وعمل بعضهم لصالح النظام.

استُعمِل تعليقي عن زيارة الرئيس أوباما إلى إيران لمحاولة تطبيع العلاقات الثنائية لاحقاً كدليل ضدي ضمن إجراءات قانونية هزلية على مدار السنة. اتُّهِمتُ بمحاولة "التخريب السلس" أو "التجسس" بهدف إسقاط النظام الإيراني. رغم سخافة هذه الفكرة، يستعمل النظام هذا النوع من الخطابات لإدانة الأميركيين الأبرياء وإصدار أحكام ضدهم، فيتحول هؤلاء إلى رهائن لانتزاع التنازلات من الحكومة الأميركية وللتعبير عن مصدر قلق إيديولوجي أساسي يحمله النظام: التصالح مع الولايات المتحدة خيار خطير وغير مقبول، لذا لا بد من كبح جميع محاولات التقارب.

من المعروف أن معاداة الولايات المتحدة هي جزء جوهري من إيديولوجيا الجمهورية الإسلامية التي تعتبر إيران المدافعة الأولى عن المسلمين ضد الدولة الأميركية الإمبريالية والتوسعية. لا تهتم إيران إذاً بالتصالح مع الولايات المتحدة أو بتطبيع العلاقات الثنائية لأن هذه الخطوة قد تبطل سبب وجود النظام الثوري. عملياً، يبرر الخطاب المرتبط بالتهديدات التي يطرحها أي عدو خارجي قوي القمع المحلي الذي يمارسه النظام وجهوده الرامية إلى توسيع نفوذه في منطقة الشرق الأوسط وما وراءها.

يدرك المسؤولون الإيرانيون ضرورة أن تستمر النزعة العدائية ضد الولايات المتحدة، بغض النظر عن وجهة السياسة الأميركية تجاه إيران. أخبرني سجين كان قد عمل في مكتب حكومي مرموق بأن سعيد جليلي، الأمين السابق للمجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، اعترف بأن النظام لا يريد أي مصالحة مع الولايات المتحدة لأنها قد تُضعِف شرعيته. لذا يفضّل النظام الإيراني أن يستمر توتر العلاقات مع الولايات المتحدة، شرط أن يبقى "تحت السيطرة"، لتبرير سياساته المحلية والخارجية. في هذا السياق، علمتُ من سجين آخر أن سفيراً إيرانياً سابقاً لدى الأمم المتحدة اشتكى من احتمال تضرر المصالح الوطنية القديمة في إيران بسبب استمرار العدائية ضد الولايات المتحدة، ومع ذلك أوصى أتباعه بالتخلي عن آمال التقارب الساذجة لأن نظام الجمهورية الإسلامية لن يسمح بحصول ذلك.

يستغل الموالون للنظام مشاعر العدائية تجاه الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب شخصية ومؤسسية، فيرسّخون بهذه الطريقة العداوة القائمة. أخبرني المحقق في نهاية الاستجواب أنني مضطر للاعتراف بأني جاسوس للأميركيين، مع أنه يعرف أنني لستُ كذلك. لكنه اعتراف ضروري بحسب قوله كي تتمكن أجهزة الاستخبارات الإيرانية من رفع دعوى ضدي والمطالبة بمبلغ نقدي وتبادل الأسرى مع الولايات المتحدة. لقد صدمتُ من صراحة المحقق وعلمتُ من مصادر إعلامية إيرانية أيضاً أن الجناح الاستخباري في الحرس الثوري الإيراني ووزارة الاستخبارات، وهما أهم جهازَين متنافسَين في إيران، تجادلا علناً حول الفريق الذي يُفترض أن يتلقى الإشادة على استرداد أصول مجمدة بقيمة 1.7 مليار دولار تزامناً مع إطلاق أسرى أميركيين في كانون الأول 2016. نتيجة هذا الجدل، كان منطقياً أن تتابع الجهات المتنافسة في أجهزة الاستخبارات الإيرانية اعتقال الأميركيين لاستعمالهم كرهائن سياسيين.

قد تبدو العقوبات الأميركية ثمناً باهظاً مقابل عدائية لا تزال "تحت السيطرة". لكن حتى العقوبات قد تتحول إلى منفعة طالما تسمح للنظام بتحقيق المكاسب عبر احتكار قطاعات أساسية من الاقتصاد على حساب المواطنين العاديين، تزامناً مع تكريس النزعة إلى وضع إيران في موقع الضحية أمام الرأي العام المحلي والعالمي. استفادت جماعات معيّنة لها امتيازات خاصة، على غرار مكتب المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني، من التحايل على العقوبات عبر وسائل غير شرعية مثل تبييض الأموال دولياً والتهريب. أخبرني سجناء تورطوا سابقاً في عمليات تبييض الأموال والتحايل على العقوبات لصالح النظام بمخاوفهم في هذا الإطار، واعترفوا أيضاً بأن الالتفاف على العقوبات المدروسة والمُطبّقة بأفضل الطرق قد يكون مكلفاً وصعباً جداً، ما يزيد الأعباء المفروضة على النظام.

كان المراقبون وصانعو السياسة في الولايات المتحدة يعوّلون أحياناً على احتمال أن تتراجع التزامات النظام المعادية للأميركيين نتيجة التوتر السائد بين مختلف الفصائل السياسية في إيران، حتى أن هذه الآمال أثّرت على سياساتهم. لكنّ هذا التفكير يرتكز على الأمنيات في أفضل الأحوال. لا يشكّل المعتدلون المزعومون في إيران قوة سياسية موحدة لها أجندة محددة وقيادة واضحة لطرح بديل واقعي عن "خصومهم" المتشددين. كما أنهم لا يسيطرون على نسبة كبيرة من الموارد الاقتصادية أو العسكرية، حتى لو كانوا يتحكمون بسلطة مُنتَخبة. بل إنهم يشكلون وجهاً آخر للنظام نفسه، ما يعني أنهم يتعايشون مع نظرائهم: يتكل المتشددون على المعتدلين لقيادة جميع التفاعلات الشرعية مع المجتمع الدولي باسم النظام، بينما يتكل المعتدلون على المتشددين للحفاظ على امتيازاتهم السياسية داخل البلد. يتقاسم هذان الفريقان هدفاً مشتركاً يقضي بحماية النظام الديني لأن مصالحهما تتوقف عليه. لقد أدرك جزء كبير من الإيرانيين أن المعتدلين، على غرار الرئيس حسن روحاني وحلفائه المكلّفين بتسيير شؤون الدولة اليومية، هم أشبه بمتعاقدين مع النظام لإدارة البلد. كما أنهم يُستعمَلون ككبش محرقة لحماية القائد الأعلى والحرس الثوري الإيراني، وهما مصدرا النفوذ الحقيقي في النظام، من تلقي اللوم على الإخفاقات الحاصلة.





الــــتــــهــــديــــدات أقــــوى مــــن الــــوعــــود

تزامنت فترة اعتقالي في إيران مع بداية تنفيذ الاتفاق النووي الإيراني، وهو اتفاق تاريخي كان يهدف على الورق إلى كبح برنامج إيران النووي مقابل رفع جزء من العقوبات الدولية، لكنه في جوهره مؤشر واعد الى بدء حقبة جديدة في العلاقات الإيرانية الأميركية. لكن انطلاقاً من الظروف التي كنت أعيشها، بدت لي هذه الرؤية المثالية في غير محلّها بقدر الأمل بحصول إصلاح سياسي داخلي.

كان النظام الإيراني الذي تعرّفتُ عليه يحمل نظرة متناقضة جداً تجاه الاتفاق النووي، فيتوق إلى الاستفادة منه مادياً لكن يخشى الحرس الثوري الإيراني في الوقت نفسه أن يؤدي الاتفاق إلى المطالبة بالتحرر السياسي والاقتصادي، ما قد يعني تدمير مصالح النظام. عملياً، اعتبر النظام الإيراني ومناصروه المتشددون ازدهار النشاطات الاقتصادية في إيران بسبب ذلك الاتفاق مصدر تهديد لهم، وشعروا بالقلق من أن يُمهّد القطاع الخاص الناشئ لتقوية المجتمع على حساب الدولة. لهذا السبب، سرّعوا جهودهم لكبح القطاع الخاص، لا سيما مجال التكنولوجيا.

تحوّل قطاع التكنولوجيا في إيران سريعاً إلى محرك للنمو الاقتصادي نظراً إلى ارتفاع أعداد المهندسين الموهوبين في البلد. لكن اعتبر المتشددون هذا الوضع تهديداً لهم. بعد وقتٍ قصير على إبرام الاتفاق النووي، أطلقوا حملة مكثفة ضد ما سمّوه "التجسس". اتّهمت هذه الحملة قطاع التكنولوجيا ورجال الأعمال المبتدئين بالتحالف مع الغرب (لا سيما الولايات المتحدة) والسعي إلى تخريب النظام الإيراني بسلاسة تمهيداً لتغييره في نهاية المطاف. قابلتُ عدداً كبيراً من رجال الأعمال المثقفين وخبراء التكنولوجيا والمفكرين في السجن. لقد اعتُقِلوا جميعاً بتهمة "التجسس". خلال الفترة نفسها، أي بعد تنفيذ الاتفاق النووي مباشرةً، تابع النظام حملته القمعية ضد الناشطين في مجال حقوق المرأة والأقليات الدينية والمفكرين الليبراليين وجهات أخرى. أخبرني سجناء يعرفون تلك الجماعات بأن حملة الاضطهاد توسّعت برأيهم.

على المستوى الإقليمي أيضاً، كان النظام الإيراني يتوق إلى التعبير عن استقلاليته ومقاومته المتواصلة للمصالح الأميركية بعد توقيعه على الاتفاق النووي. فعمد إلى اختبار الصواريخ البالستية وتابع دعم عملائه في العراق واليمن ولبنان وفلسطين، فضلاً عن نظام بشار الأسد في سوريا، وأجّج في الوقت نفسه الاضطرابات في المملكة العربية السعودية والبحرين. كانت الرسالة الكامنة وراء هذه التحركات مدوّية وواضحة: لن تُعدّل إيران سلوكها في المنطقة بسبب ذلك الاتفاق بل إنها ستعمل على توسيع نفوذها.

يجب أن يفهم صانعو السياسة والرأي العام في الولايات المتحدة أن جوهر العلاقة الشائكة بين طهران وواشنطن يكمن في ضرورة الحفاظ على المواقف العدائية ضد الولايات المتحدة لضمان صمود النظام الديني وازدهار النخبة الحاكمة فيه. للحفاظ على حالة الصراع، من دون أن تقود إلى الحرب أو تدمير النظام، تخوض الجمهورية الإسلامية طوال الوقت لعبة حساسة تترافق للأسف مع عواقب حقيقية تتمثل بزيادة معاناة أمثالي وحتى المواطنين العاديين في أنحاء إيران والشرق الأوسط.

أخيراً، تُعتبر الولايات المتحدة مهمة لإيران بما يفوق أهمية إيران للولايات المتحدة. لكن تبقى إيران قوة مُفسِدة، ما يعني أنها قد تسيء إلى مصالح الولايات المتحدة وحلفائها بقوة. هذه القدرة التدميرية هي أهم ورقة ضغط تملكها إيران. لهذا السبب، يجب ألا تغفل واشنطن عن تحركاتها مطلقاً، مهما أصبحت النقاشات حول إيران منقسمة. قد يؤدي التفكير المبني على الأمنيات والمرتبط بقدرات المعتدلين الإيرانيين أو احتمال تغيير الطبيعة الثورية للجمهورية الإسلامية إلى تأجيج الخطاب العدائي والمعلومات المغلوطة عن الولايات المتحدة من جانب النظام الإيراني، ما يسمح له بالاستفادة من الانقسامات السياسية في واشنطن.