جورج العاقوري

بشير الجميل وميشال عون والاتّجاه المعاكس

14 أيلول 2020

02 : 00

بشير الجميل

توقّفت عقارب الرئيس القوي، عند الرابعة وعشر دقائق من ذاك الرابع عشر من أيلول 1982، ومن يومها، لم يعرف لبنان رئيساً قوياً، لأنّ معادلة القوّة هنا مرتبطة بمدى قدرة هذا الأخير على بناء دولة قوية.

فبشير الجميل كان يحمل مقوّمات الرئيس القوي ولكنّه تجربة لم تبلغ مداها، الا أنّ الأيام الواحد والعشرين التي فصلت انتخابه عن اغتياله، كانت كفيلة بتتويجه في وجدان اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً أيقونة للرئيس القويّ، ولو تضاربت الآراء حوله واختلف المرء معه الى حدّ الخصومة، لا بل العداوة.

أمّا العماد ميشال عون، الذي كان يُمسك أوراقاً تؤهّله لبلوغ مصاف الرؤساء الاقوياء، وسعى للترويج لنفسه بأنّه الرئيس القويّ، وبأنّ الله أنعم على اللبنانيين بـ"عهد قوي"، فأثبتت ممارسته السلطة وإنجازات السنوات الأربع من عهده أن لا قوة ولا نيّة ولا من يحزنون، وأظهر الواقع على الأرض أنّ بناء الدولة ليس أولوية ولا حتّى غاية.

من الدويلة الى الدولة ومن الدولة الى الدويلة

في مشوارِهما الى بعبدا، بشير الجميل وميشال عون سارا بالإتّجاه المعاكس، أحدهما من الدويلة الى الدولة، والآخر من الدولة الى الدويلة.

فبشير تفتّحت عيناه على دولة ضعيفة مُستباحة، حيث السيادة مُنتهكة وقرار الحرب والسلم مخطوف في ظلّ تعاظم الدور الفلسطيني و"طريق القدس التي تمرّ بعيون السيمان وجونية"- كما أعلن عضو اللجنة المركزية لـ"فتح" أبو أياد خلال مهرجان في جامعة بيروت العربية في 23 ايار 1976- و"فتح لاند" جنوباً، وفي ظلّ من حاول ركوب الموجة من الأفرقاء اللبنانيين لتسجيل مكاسب تاريخية وتحقيق متغيّرات بنيوية. هذا البشير كاد الموت يخطفه عام 1970 عندما خطفه مسلّحون فلسطينيون في مخيّم تلّ الزعتر الواقع في عقر داره المتن.

كما وجد نفسه عام 1975 وسط دولة منهارة ومُشلّعة الى دويلات، وسلاح مفروض عليه حمله لحماية ما تبقّى من شرعية ومنع وطن من الزوال. فعمل على تحويل الدويلة التي وُجِد فيها منطقة محرّرة، تمهيداً لتحرير لبنان. وحّد البندقية بعمليات دموية، ولكن سريعة وموضعية وضعت حدّاً لنزف الدم اليومي واستنزاف القوة بين الفصائل المسلّحة التابعة لأحزاب "الجبهة اللبنانية"، وكان آخر جولاتها حادثة الصفرا في 7 تمّوز 1980 مع "نمور الأحرار". فنجح بشير كمقاتل شرس يتمتّع بـ"كاريزما" استثنائية وصاحب رؤية ومشروع، بأن يكسب ثقة وعطف مجتمعه، واستمدّ من ذلك مشروعيّة لخوض المعركة الإنتخابية.

إطلاق بشير شعار الـ 10452 كلم مربّع خير دليل على حِرصه على وحدة الوطن وسيادته التامة، وما سعيه للوصول الى بعبدا إلا لتحقيق حلمه بـ"الجمهورية القوية".

أما العماد عون، الذي وصل الى السلطة على رأس حكومة انتقالية عرجاء في 23 ايلول 1988، تمثّلت بأعضاء المجلس العسكري المسيحيين الثلاثة بعد انسحاب الأعضاء المسلمين الثلاثة منها، فعلى عكس بشير، حاول أن يستمدّ مشروعية الوصول الى سدّة رئاسة الجمهورية من شرعية بزّته العسكرية. لكن ثمن وصوله الى رئاسة الجمهورية عام 2016 كان مدفوعاً مُسبقاً منذ ورقة تفاهم مار مخايل في 6 شباط 2006 التي وقّعها مع "حزب الله" بتغطية سلاحه غير الشرعي وهيمنته على قرار الحرب والسلم ومغامراته الإقليمية، فانتهى رئيس دولة في خدمة الدويلة.

عون "جبرائيل" في فريق بشير

لقد كان عون جزءاً من مشهدية الإقتتال في أكثر من محطّة في الحرب اللبنانية، كمعركة مخيّم "تلّ الزعتر" في تموز 1976، حيث لعب دوراً في وضع خطط الهجوم للسيطرة على المخيّم.

وعون نفسه، كان ضمن مجموعة الأربعة التي ضمّته الى جانب المسؤولين في "القوات" سمير جعجع وأنطوان نجم وفؤاد أبو ناضر، واجتمعت في 6 آب 1980 في دير القطّارة بتكليف من الشيخ بشير الجميل، لوضع مشروع استراتيجية عمل لمرحلة ما بعد 7 تموز.

كذلك، كان عون الضابط الآتي من المؤسسة العسكرية - وقد أعطي لقب جبرايل كما استخدم أيضاً في بعض الأحيان لقب رعد - من ضمن فريق عمل بشير، لخوض معركة رئاسة الجمهورية التي اعتمدت استراتيجيتها في خلوة دير سيدة البير في بقنّايا - جل الديب في لقاء 27 أيلول 1980.

إلّا أنّ عون أدرك قبيل العام 1988 أنّ الناس تعبت من الحرب، وأنّ المقاومة اللبنانية كأيّ مقاومة في العالم، مع مرور الوقت تفقِد بعضاً من بريقها جرّاء تراكم الأخطاء والممارسات الشاذّة، فعمد الى الترويج لنفسه لتسلّم السلطة مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل بشكل مفضوح. خير دليل على ذلك كتاب "ويبقى الجيش هو الحلّ" للعميد الركن فؤاد عون الذي صدر في آب 1988، وهو عبارة عن تصوّر لسياق عملية الحلّ في لبنان عن طريق تبوّؤ الجيش بقيادة الجنرال عون للسلطة.



ميشال عون



أخفق عون عسكرياً حيث نجح بشير

في المعارك والحروب، أخفق عون حيث نجح بشير. فتحت شعار "لا بندقية تعلو فوق بندقية الجيش اللبناني"، خاض حربَي إلغاء لـ"القوات اللبنانية" في 14 شباط 1989 و31 كانون الثاني 1990 من أجل توحيد البندقية، كانتا حربي استنزاف امتدّتا لأشهر، وسقط خلالهما آلاف القتلى والجرحى وسط دمار شامل وفشل، فيما بشير نجح بتوحيد البندقية في عمليات عسكرية موضعية لساعات وبخسائر محدودة.

كذلك خاض حرباً اعتباطية ضدّ الجيش السوري في 14 آذار 1989، أطلق عليها اسم "حرب التحرير" مُتعّهداً بـ"تكسير راس حافظ الأسد" و"هزّ المسمار"، ثمّ أعلن أنّ هذه الحرب "تنفيسة سببها المرافئ" التي عمل على ضبطها، فأصبح مرفأ بيروت الخاضع لشرعيته تحت النار، وفشل أيضاً حيث نجح بشير. فقائد "القوات اللبنانية"، عقب توقيفه من حاجز للجيش السوري في ساحة ساسين في الأشرفية في صيف 1978، خاض حرباً شرسة ضدّ جيش الأسد، عُرفت بـ "حرب المئة يوم"، وانتهت بانسحاب الجيش السوري من الأشرفية. هذه الحرب كرّسته قائداً عسكرياً. كما أنّ حرب زحلة في نيسان1981 ضدّ الجيش السوري، والتي انتهت بترويض كيفية تعاطيه مع المدينة، كرّست بشير لاعباً سياسياً وفتحت له أبواب الولايات المتّحدة الأميركية التي دعمت عبر موفد الرئيس رونالد ريغن السفير فيليب حبيب إلى لبنان وصوله إلى رئاسة الجمهورية.

مقوّمات الرئيس

صحيح أنّ بشير الجميل كان يحمل مقوّمات الرئيس القويّ، لكن العماد ميشال عون كان يُمسك أوراقاً تؤهّله لبلوغ مصاف الرؤساء الأقوياء.

بشير أصرّ على ألا يكون مرشّح المسيحيين حصراً بل اللبنانيين، ونجح جزئياً جرّاء كسبه دعم رئيس مجلس النواب كامل الأسعد عند الشيعة، ورئيس الحكومة صائب سلام عند السنّة، والمير مجيد ارسلان عن الدروز. كما رفض توقيع أي معاهدة سلام مع اسرئيل بلا موافقة الاطراف اللبنانية، وخير دليل الإجتماع العاصف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغين في نهاريا في مطلع أيلول 1982.

أمّا العماد عون فحصل ترشيحه على شبه إجماع، حيث نال دعم الثنائي الشيعي "حزب الله" و"أمل"، الرئيس سعد الحريري وقوى "8 آذار" سنّياً والشريك الأقوى لـ"التيار الوطني الحرّ" مسيحياً، أي "القوات اللبنانية". كما أنّ مروحة الدعم الدولي والعربي لعون كانت أوسع من بشير.

خلال 21 يوماً، استطاع بشير بهيبته فرض إيقاع الدولة والقانون في المؤسسات والإدارات. أمّا الرئيس عون فمضى 67 مرّة 21 يوماً على انتخابه، ولم يُقدم حتّى الساعة على ذلك بالرغم من امتلاكه جميع المقوّمات، ولم يشهد عهده قيام إصلاحات فعلية أو توقيف فاسد واحد. إنها جدلية العلاقة، فلا رئيس قويّاً من دون بناء دولة قويّة.