طارق عينترازي

يا علي...

16 أيلول 2020

02 : 00

يا علي. نحن أهل الجنوب حفاة المُدُنِ نروي سيرَتَكَ (من رائعة عباس بيضون التي غنّاها مارسيل خليفة عام 1979). تعالوا نروِ سيرة صديقي علي، الذي سمعنا هذه الأغنية هو وأنا عشرات المرّات، وطربنا لها كل مرّة. الإبن البكر لعائلة مُتجذّرة في ذلك الجنوب الذي أعطانا سناء محيدلي وسهى بشارة ومهدي عامل وحسن قصير ومعروف سعد والإمام الصدر.

تخرّج علي من الجامعة الأميركية في بيروت، وقد باع أهله معظم أملاكهم لدفع أقساطها.

سافر علي الى افريقيا، وعاش معظم شبابه يعمل من "الفجر للنجر"، كما يُقال. أُصيب بالملاريا ونجا من السرقة والخطف مرّاتٍ ومرّات. بدأ بمعاش بسيط يقتطع منه حوالات لوالديه واخوته في لبنان.. ومنه ايضاً جمع رأسمالاً بسيطاً افتتح به مصلحة. توسّعت المصلحة وبدأ علي يرسل بطلب أقربائه وأصحابه للعمل معه في افريقيا. تحسّنت الأحوال، وتمكّن علي من بناء منزل جميل لوالديه، وشراء شقّة قريبة من الجامعة لسكن إخوته في بيروت. قارب علي الستّين، وتجاوز والداه الثمانين. ثلثا عمره أمضاه علي بغربة قسرية حُرِمَ خلالها من رؤية والديه إلا لأسابيع قليلة كلّ عام. حسناً، حان وقت العودة الى لبنان! باع علي مصلحته بمبلغٍ لا بأس به، حوّله مباشرة الى بيروت. لم يكن لديه خيار لأنّ بنوك أميركا وأوروبا لا ترحّب بأموال "شيعة افريقيا" كما يُقال، خوفاً من ارتباطها بـ"حزب الله". لا بأس. فصديقي لا يريد أكثر من التقاعد في قريته الجنوبية الجميلة في منزل بناه من تعبه وعرق جبينه.

عاد علي ليستمتع بتقاعدٍ مستحَقّ، ولم يكترث لكون وزارة المالية لسنوات طويلة كانت برعاية سميّه. يقولون في الأخبار إنّ حقوقه كشيعي مُصانة بحمى الثنائي. أيضاً لا بأس. علي لا يريد غير السترة.

لم يعلم أنّ علي، سميّه وزير المال، وافق ولسنواتٍ عدّة على تمويل ميزانيات الدولة من مدّخراته ومدّخرات عشرات آلاف اللبنانيين الأشراف، الذين عملوا بجدّ لبناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، بعيداً من فساد ومحسوبيات وطنهم. نفس الوزير بانت عليه مظاهر الغنى الفاحش الذي أصبح حديث عامة الشعب من ساعات باتك فيليب وسيارات فارهة وبيوت أشبه بالقصور.

صحا علي ذات صباح على نبأ إقفال البنوك. فجأةً أصبح سحب المال من حساباته مستحيلاً، وحدّدت له البنوك مصروفه الشهري وأوقفت بطاقات ائتمانه. عادت ذكريات الفقر والعوز وذلّ الحاجة التي خبرناها معاً أيام الجامعة. كيف لعلي ألّا يقتنع أنّ العقوبات على سميّه الوزير مستحقّة، وبجدارة؟ كيف له ألّا يتمنّى (كما نتمنّى نحن) أن تتوسّع تلك العقوبات لتشمل كلّ من تعاقب على وزارة أو إدارة عامة واغتنى بسببها من دون وجه حقّ؟

كيف نُقنع علي أنّ إسقاط حكومة مصطفى أديب بسبب وزارة المالية هو دفاع عن حقوقه، هو الجنوبي الشيعي أبّاً عن جدْ؟ إذا كانت نتيجة دفاع الثنائي الشيعي عن حقوقه لأربعين عاماً مضت هي ضياعها كلّياً، كيف نُقنعه أنّ تغيير حمايته السياسية لا لزوم له؟ كيف نُقنعه أنّ لا ضرورة لتجربة حماية جديدة من أخصائيين بشؤون المال والإقتصاد والطاقة لا ينتمون الى الثنائي الميمون؟

لنعد الى رائعة عبّاس بيضون الذي نادى علي قائِلاً.. "قاوَمْتَ لتحرّر دمك من عنابر الزيت وفمك من مخازن السُكَر. وعظامك من مقاعد البكوات وأمراء الدواوين. لكن يا علي.. يا علي.. أين تجد هنا ارضاً لرأس طليق ويدين حرّتين"؟ علي وأنا والكثير مثلنا تحرّرنا من عنابر الزيت ومن مخازن السكّر، بعضنا تحرّر بالعمل في افريقيا والبعض الآخر تحرّر بالعمل في الخليج وفي أميركا وفي كلّ أصقاع الأرض.

أين سنجد لنا رأساً طليقاً ويَدين حرّتين وأموالنا وجنى أعمارنا سُرِقت مِن قبل مَن ادّعوا حمايتنا؟

يا علي، أنا مثلك، سيقتلني حبّي لهذا الوطن، وسيقتلني حزني على ضياع جنى أربعين عاماً ادخرته لتعليم أبنائي وللعيش بكرامة في خريف العمر. سيقتلني حزني على ضياع حلم التقاعد بكرامة في بلدي وبين أهلي..

قتلتنا جميعاً، نحن اللبنانيين، حمايتكم المزعومة. بربّكم دعونا نجرّب العيش من دونها!


MISS 3