غاي بورتون

"السلام السلبي"... مقاربة الصين في الشرق الأوسط؟

21 أيلول 2020

المصدر: War On The Rocks

02 : 01

ما الذي تخطط له الصين في الشرق الأوسط؟ ما هي نواياها الحقيقية وهل تطرح تهديداً للنظام الأميركي الطاغي هناك؟ وهل ستشهد مقاربتها للصراع الإقليمي قريباً تحولاً بارزاً من خلال مفهوم "السلام عبر التنمية"؟

تعاونت الصين مع أنظمة مختلفة في أنحاء الشرق الأوسط، لكن لا يعني ذلك أن النظام الإقليمي السائد يواجه تحديات خطيرة منذ الآن. لإدراك حقيقة الوضع، لا بد من فهم دور القوى الراسخة والناشئة في المنطقة، لا سيما الولايات المتحدة والصين، والسلوكيات التي تتبناها.

يتّضح الفرق بين المواقف الأميركية والصينية عبر مكانة كل بلد منهما في النظام الدولي. عمدت الولايات المتحدة، بصفتها قوة راسخة، إلى رسم معالم البنى الأمنية والحفاظ عليها. أما الصين، فهي القوة الناشئة التي لم تتدخل كثيراً في هذه العملية. لهذا السبب، يبدو هامش المرونة الذي يسمح لها بتحقيق أهدافها أوسع من الأطراف الأخرى. نتيجةً لذلك، تمكنت بكين من أداء أدوار مختلفة في تعاملها مع السياسة الشائكة ومتطلبات الأمن في المنطقة.

تتوقف ردة فعل الصين على عاملَين: وضع العلاقات الاقتصادية والسياق السياسي السائد. حيثما كانت المصالح الاقتصادية الصينية قوية، زادت بكين اهتمامها بالمسائل الأمنية. لكن في الأماكن التي تتولى فيها جهات أخرى توفير الأمن (مثل الولايات المتحدة) مقابل تراجع المصالح الاقتصادية الصينية، تجنبت بكين التورط في المسائل الأمنية.

اتّضح "تهرّب" الصين في تعاملها مع العراق بعد العام 2003، والخلاف الخليجي في العام 2017، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. في العراق، استفادت الشركات الصينية كثيراً من سقوط صدام حسين، وأصبح عدد كبير منها مؤثراً في قطاع الطاقة المحلي. حققت الشركات هذا الهدف رغم غياب المساعدات الصينية في الجهود الأمنية التي وقعت في معظمها على عاتق الولايات المتحدة واحتلالها العسكري. أدى ذلك الخلل في التوازن إلى إثارة استياء الرئيس السابق باراك أوباما لدرجة أن يتّهم الصينيين باكتساب المنافع على حساب الأميركيين.

في النقاط التي شهدت تراجع النفوذ السياسي والاقتصادي الغربي، لعبت الصين دوراً ناشطاً و"داعماً" على مستوى التحكم بالصراعات القائمة. تتعدد الأمثلة على ذلك، أبرزها دارفور في السودان بين العامين 2004 و2006 وبرنامج إيران النووي بين 2013 و2015. نجحت الصين في استمالة الحكومتَين بصفتها شريكة تجارية كبرى لهما. وسمحت لها مكانتها في أداء دور الوساطة، فأقنعت شركاءها الإقليميين بتهدئة مخاوف الغرب تزامناً مع التصدي للمطالب الغربية بتشديد العقوبات.



منتدي أمن الشرق الأوسط في بكين



لكن رغم هذه النزعة إلى توسيع التدخل، بقيت أهداف وإنجازات الصين حين لعبت دور الوساطة في أماكن أخرى متواضعة بشكل عام، فركّزت على عقد اتفاق بسيط بين الطرفين. في إسرائيل، أكد وزير خارجيتها على الالتزام الصيني بحل الدولتين، مع إقامة دولة فلسطينية مستقلة بالكامل بناءً على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. لكن عملياً، لم تعالج المحادثات المدعومة من الصين المشاكل الجوهرية الكامنة وراء الصراع. نتيجةً لذلك، نشأ شكل محدود من خطط إدارة الصراعات حيث يتراجع التهديد بالعنف أو تنحصر ممارساته، بدل حل المشاكل واستهداف الأسباب الأصلية: هذا ما سمّاه عالِم الاجتماع النروجي يوهان غالتونغ "السلام السلبي" و"السلام الإيجابي" على التوالي.

يبدو أن السلام السلبي هو الهدف الأساسي من استجابة الصين للحروب "الساخنة" الحالية في الشرق الأوسط، وتحديداً في ليبيا وسوريا واليمن. كذلك، قد تعكس أهداف الصين المحصورة وتورطها المحدود في هذه الصراعات الروابط السياسية والاقتصادية الضئيلة التي تجازف بها. حتى قبل بدء الانتفاضات العربية، كانت قيمة الاستثمارات الصينية أقل من 8 مليارات دولار في تلك البلدان الثلاثة.

في هذه الحالات كلها، شدد المسؤولون الصينيون على أهمية احترام السيادة الوطنية وإحباط التدخل الخارجي وحرصوا على إقناع الأطراف المتناحرة بالمشاركة في حوار سياسي بدل الصراع المسلّح. لتحقيق هذه الغاية، دعموا الجهود الدولية عن طريق المنظمات الإقليمية أو الدولية مثل الأمم المتحدة. كذلك، أيدوا السلطات المعترف بها دولياً في ليبيا واليمن، فضلاً عن نظام بشار الأسد الملطّخ بالدم لكن غير المـــهزوم في سوريا.

قد يعتبر الصينيون موقفهم بنّاءً، لكن يظن بعض المراقبين الغربيين أن بكين تؤدي دور "المُفسِد". منذ شباط 2012، انتقدت وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون معارضي قرار الأمم المتحدة الذي يدين الأسد، بما في ذلك الصين. فقالت كلينتون إن الصينيين يجب أن "يتحملوا مسؤولية الأهوال الحاصلة ميدانياً". كان الصينيون ينظرون إلى الادعاءات الغربية أصلاً بعين الشبهة ويظنون أن الغرب حاول إسقاط الأسد عبر استعمال القرار الجديد مثلما استعملت قوات الناتو تفسيرها الخاص للقرار 1973 لاستهداف معمر القذافي في ليبيا، علماً أن الصين امتنعت عن التصويت على هذا القرار أيضاً.

حتى الآن، أثبتت الصين أنها قوة تفاعلية من خلال أدوار الدعم أو الإفساد أو التهرب في صراعات الشرق الأوسط. لكن تثبت مؤشرات مستجدة أن موقفها بدأ يتغير وقد تنتقل إلى دور استباقي. تبدي بكين اهتمامها بالمشاركة في رسم معالم المنطقة بدل الاكتفاء بإدارة الصراعات وحلّها ودعم جهود إعادة البناء بعد انتهاء الخلافات من خلال مفهوم "السلام عبر التنمية".

تم استكشاف مفهوم "السلام عبر التنمية" خارج الأوساط الرسمية في السنوات الأخيرة وقد جذب اهتماماً كبيراً لثلاثة أسباب رئيسية. أولاً، يعني توسّع نفوذ الصين عالمياً اقترابها المتزايد من الدول والمجتمعات التي تجتاحها الصراعات. ثانياً، بدأت "مبادرة الحزام والطريق" (مشروع انطلق في العام 2013 ويهدف إلى إنشاء وتحديث البنى التحتية الخاصة بالنقل والاتصالات في مختلف المساحات الأرضية الأوراسية) تتحول إلى معيار توجيهي تستعمله الصين للتواصل مع هذه البلدان. ثالثاً، تظن الصين أن خبرتها في مجال التنمية قد تشكّل نموذجاً يُحتذى به في البلدان الأخرى.

نتيجةً لذلك، نشأ شكل تنموي يتعارض مع نموذج "السلام الليبرالي" الغربي الطاغي الذي يشدد على بناء المؤسسات، لا سيما الديمقراطية والأسواق. يقترح البديل الصيني تنمية تقودها الدول بدل الإصلاحات السياسية، والاستقرار بدل الشمولية، والمساعدات والاستثمارات غير المشروطة.

منذ ذلك الحين، زاد زخم الجهود الرامية إلى تطبيق فكرة السلام عبر التنمية عملياً بين بعض الخبراء والمراقبين. في وقتٍ سابق من هذه السنة، نُشرت مقالة باللغة الصينية على تطبيق WeChat بقلم الباحث في شؤون الشرق الأوسط صن ديغانغ، ومبعوث الصين السابق إلى الشرق الأوسط وو سيكي. قد لا تكون هذه المقالة وثيقة رسمية لكنها تشمل جزءاً من التعليقات والتصريحات التي أدلى بها صن والمسؤولون الحكوميون في السنوات الأخيرة. بحسب رأيهم، سبق وساهمت الصين في حفظ السلام في المنطقة لكن حان الوقت الآن للمشاركة في بناء السلام. ذُكِرت أيضاً تعليقات القادة الصينيين منذ العام 2016 ومفادها أن معظم الاضطرابات الإقليمية تنجم عن غياب التنمية.

انتقد وو وصن المقاربة الأميركية التي اختصراها بفرض الديموقراطية من أعلى المراتب إلى أسفلها بغض النظر عن الظروف المحلية، واعتبرا في المقابل أن الشرق الأوسط سيستفيد بدرجة إضافية من مقاربة شاملة تدعمها الصين وتنطلق من أدنى المراتب إلى أعلاها، على أن تشمل "المصالحة السياسية والتنمية الاقتصادية والبناء الاجتماعي والتعليم الأساسي".

حتى الآن، لا يزال مفهوم "السلام عبر التنمية" مجرّد حبر على ورق بشكل عام وقد اتضحت صعوبة تطبيقه عملياً. في شهر تشرين الثاني الماضي، استضافت الصين "منتدى أمن الشرق الأوسط" على أمل أن يضع المشاركون خلافاتهم جانباً ويتعلموا من التجربة الصينية. لكن سرعان ما تبيّن أن تلك الآمال تفاؤلية أكثر من اللزوم. كتب وانغ جين من جامعة شمال غرب الصين أن فكرة بكين الجديدة لا تزال مثالية جداً، وهذا ما يمنع تطبيقها في المنطقة. كذلك، ذكر وانغ أن الولايات المتحدة لا تزال أهم قوة مُهيمِنة إقليمياً وضامنة لأمن المنطقة التي تنقسم أصلاً بين معسكرَين متناحرَين: دول الخليج العربي ومصر وإسرائيل من جهة، وإيران وتركيا وقطر من جهة أخرى.

في المرحلة المقبلة، يبدو أن الصين ستواجه صعوبة في تطبيق مفهوم "السلام عبر التنمية" في المنطقة. لكن بغض النظر عن نجاح هذه المقاربة أو فشلها، ينذر هذا التكتيك الجديد بحصول تغيير في السلوك الصيني على مستوى إدارة الصراعات وحلّها. بدل أن تكون الصين لاعبة تفاعلية ودفاعية كما كانت في الماضي، يبدو أنها تحاول أن تصبح مشارِكة استباقية. لهذا السبب، يجب أن يستخلص صانعو السياسة الآخرون في الولايات المتحدة والغرب الدروس اللازمة ويتجاوبوا مع الوضع بالطريقة المناسبة. هم يستطيعون التعاون مع الصين لتصميم وتنفيذ سياسات ومشاريع تهدف إلى إرساء السلام وتحقيق التنمية عبر تقاسم المعارف والنصائح وأفضل الممارسات الممكنة. أو قد يعتبرون إطار عمل "السلام عبر التنمية" بالشكل الذي يقترحه الصينيون مبهماً أكثر من اللزوم أو يعجز عن معالجة الأسباب الكامنة للصراع. في هذه الحالة، قد يصبح نطاق التعاون محدوداً. في مطلق الأحوال، يُشدد نشوء هذا البديل الصيني على ضرورة أن تراجع وكالات الإغاثة والجهات المانحة ممارساتها اليوم وتعترف بالضوابط أو الإخفاقات السابقة. أخيراً، يجب أن تستعد هذه الأطراف أيضاً للتعامل مع ظهور جهة أمنية وتنموية جديدة على الساحة.


MISS 3