كريستين لي

الولايات المتحدة لا تستطيع التخلّي عن الأمم المتحدة

26 أيلول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

تعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع أول لقاء افتراضي من نوعه بين قادة العالم. كان هذا الحدث معقداً بالنسبة إلى واشنطن. انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الصين بسبب فشلها في منع انتشار فيروس كورونا المستجد حول العالم خلال خطابه المسجّل أمام الجمعية العامة يوم الثلاثاء. لكنّ إخفاقات إدارته في التعامل مع الوباء طغت على رسالته. لقد حوّلت إدارة ترامب الولايات المتحدة إلى دولة تهتم بشؤونها الداخلية ولا تتردد في الانسحاب من الأمم المتحدة، حتى أنها انسحبت حديثاً من منظمة الصحة العالمية تزامناً مع تفشي الفيروس.

في شهر حزيران الماضي، أوضح مستشار الأمن القومي روبرت أوبراين أن الولايات المتحدة أنهت علاقتها مع منظمة الصحة العالمية لأن "طريقة تعامل الوكالة مع الوباء أثبتت أنها تدين بالفضل إلى الصين". تزعم الإدارة الأميركية أنها تقف أمام خيار مزدوج: الانسحاب من وكالات الأمم المتحدة التي تخضع لمصالح البلدان الاستبدادية أو التعاون معها. لكنّ هذا الخيار خاطئ.

من الواضح أن التراجع الأميركي يزيد نفوذ الصين بكل بساطة. تتوق بكين إلى توسيع قوتها على الساحة العالمية خدمةً لمصالحها الضيقة، وقد أدى الانسحاب الأميركي إلى تقريب وكالات الأمم المتحدة المحاصرة من المحور الصيني، فأصبح العالم في نهاية المطاف أقل تقبّلاً للمصالح الأميركية. بدل الانسحاب، يجب أن تستعمل الولايات المتحدة حوافز اقتصادية مدروسة وحذرة لإصلاح الأجندة العالمية وجعلها تتماشى مع مصالحها وقيمها. تسمح هذه المقاربة لواشنطن بكبح النفوذ الصيني المتزايد عند الحاجة ورسم مسار وكالات الأمم المتحدة، بدءاً من منظمة الصحة العالمية.

يحمل الرأي العام الأميركي نظرة إيجابية إلى الأمم المتحدة وفق استطلاعات الرأي، حتى أن إحدى الدراسات في العام 2020 تكشف أن أكثر من 70% من الأميركيين يؤيدون الانضمام مجدداً إلى منظمة الصحة العالمية. لكن يشكّك بعض صانعي السياسة بمنفعة هذا النوع من الالتزامات الأميركية. منذ الانتخابات الرئاسية في العام 2016 وقبل انتشار فيروس كورونا هذه السنة، خصّص المحللون صفحات طويلة لمناقشة معاني المصطلحات الدقيقة والوجهة المستقبلية والتفكك المرتقب للنظام الدولي الليبرالي الذي تجسّده الأمم المتحدة.

لكن إذا انسحبت الولايات المتحدة من وكالات الأمم المتحدة من دون طرح بدائل واضحة، ستزيد عدائية العالم تجاه القيم والمصالح الأميركية. على أرض الواقع، اتّضح هذا الاحتمال بشكلٍ مقلق في منظمة الصحة العالمية تحديداً.



ترامب مخاطباً الأمم المتحدة، 25 أيلول 2018



مقارنةً بالولايات المتحدة، قدّمت بكين مساهمات مالية محدودة جداً إلى الأمم المتحدة وتبقى وسائلها الدبلوماسية أصغر بكثير. لكن أثبتت الصين أنها تجيد استعمال أوراق الضغط التي تملكها بأسلوب استراتيجي ومُجرّد من المبادئ وبطريقة لا تفعلها الولايات المتحدة.

في ما يخص منظمة الصحة العالمية مثلاً، كانت الولايات المتحدة أكبر راعية لها تاريخياً، فتوفر حوالى 15% من ميزانيتها فيما تقتصر حصة الصين على 0.2%. لكن في العام 2017، انتُخِب تيدروس أدهانوم غيبريسوس المدعوم من بكين مديراً عاماً لمنظمة الصحة العالمية. حين استلم تيدروس منصبه، كرر دعوة بكين إلى تطبيق مبادرة "طريق الحرير الصحي" التي يُفترض أن توفّر خدمات الرعاية الصحية المدعومة من الصين إلى البلدان النامية. وفي الربيع الماضي، أيّدت الولايات المتحدة عرض تايوان بالانضمام إلى جمعية الصحة العالمية التابعــة للمنظمة على اعتبـار أن الجزيرة أصبحـت من أنجح المناطـق في التعامل مع وباء "كوفيد - 19" حول العالم، لكـن رضخت منظمـــة الصحة العالمية للضغوط الصينية وأقصت تايبيه عن الاجتماع.

أعلنت الولايات المتحدة رسمياً عن انسحابها من منظمة الصحة العالمية في تموز 2020 فزادت بذلك قوة الصين ورسخت نفوذها الاستبدادي. سارعت الصين من جهتها إلى الإعلان عن تبرّعها بمليارَي دولار للأمم المتحدة لمحاربة فيروس "كوفيد-19" وجاهرت بدورها كمدافعة عن النظام الدولي. تباهى تشاو ليجيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، بمساهمات الصين لتعزيز "التعاون العالمي في مجال الصحة العامة باعتبارها دولة قوية ومسؤولة" مقابل إقدام الولايات المتحدة على "تقليص مسؤولياتها وإضعاف التضامن العالمي في جهود محاربة الفيروس". بعدما باتت الصين تتحكم بوضع المنظمة المالي من دون أن تنافسها القيادة الأميركية، بدأت تحاول اليوم التأثير على التحقيقات المستقلة التي تقودها منظمة الصحة العالمية حول أصل فيروس كورونا. لم يسافر الخبراء المسؤولون عن التحقيق في المنظمة إلى مدينة "ووهان" بعد، مع أنها تُعتبر بؤرة الوباء الأصلية، وهذا ما أجّج المخاوف حول دقة التحقيق واحتمال مراعاته للمصالح الصينية.

فيما تقتنص بكين هذه الفرصة لقيادة الجهود الصحية متعددة الأطراف، قد تستغل منظمة الصحة العالمية أيضاً لإجبار الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على دعم مصالحها. في شهر أيلول، كشفت منظمة الصحة العالمية عن تطوير لقاح عالمي وخطة توزيعه مع أنه لا يحظى بدعم الصين ولا الولايات المتحدة. قد تتفوق بكين على واشنطن وحلفائها في خضم السباق لتطوير لقاح ضد فيروس "كوفيد-19". ونظراً إلى تأثير الصين على قرارات منظمة الصحة العالمية أكثر من الجهات الأخرى، قد تستفيد بكين من سهولة توزيع لقاحها وتستعمله كورقة مساومة لكسب تأييد الدول الأعضاء لمواقفها، منها عزل تايوان أو كبح الانتقادات الموجّهة ضد سياساتها في هونغ كونغ أو التِيبَت أو شينجيانغ.

لكنّ منظمة الصحة العالمية ليست الوكالة الوحيدة التي باتت تميل إلى بكين في الأمم المتحدة وقد أدى الانسحاب الأميركي إلى تسارع هذه النزعة. في العام 2017، انسحبت واشنطن من اليونسكو. ثم استعملت بكين نفوذها المستجد لكسب دعم هذه المنظمة لصالح "مبادرة الحزام والطريق" وحاولت مضاعفة عدد الموظفين الصينيين في الوكالة. وفي العام 2018، انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. نجحت الصين منذ ذلك الحين في إسكات انتقادات المجلس لانتهاكات حقوق الإنسان المستفحلة فيها، بما في ذلك حملات الاعتقال الجماعية بحق المسلمين في شينجيانغ.

فيما تفرض بكين سيطرتها على الأمم المتحدة، بدا تعامل الولايات المتحدة مع المنظمة متقطعاً وتفاعلياً في أفضل الأحوال. علّقت واشنطن التمويل الأميركي وبدأت تلوّح بقطع الإمدادات عن وكالات الأمم المتحدة إذا كانت قراراتها تتعارض مع مصالحها. في تشرين الأول 2018، هددت واشنطن بقطع الروابط مع الاتحاد البريدي العالمي (هيئة تابعة للأمم المتحدة تتولى تنظيم خدمات البريد الدولية) بسبب إقدامه على تخفيض أسعار الشحن لصالح الصين أكثر من الولايات المتحدة. مُنِعت هذه الخطوة بصعوبة، لكنها كادت تُسبّب أزمة بريدية عالمية. أثبت التحول الجذري الحاصل داخل منظمة الصحة العالمية أن التكتيكات المستجدة بدأت تعطي نتائج عكسية متزايدة. يجب أن تبتكر الولايات المتحدة طريقة فاعلة للتواصل مع الأمم المتحدة بما يضمن إبداء مصالحها.

في شهر أيار الماضي، أعطى ترامب منظمة الصحة العالمية مهلة 30 يوماً للالتزام بـ"تحسينات جوهرية كبرى" قبل أن تسحب الولايات المتحدة تمويلها وترحل. لكن لم تُحدد الولايات المتحدة طبيعة تلك التعديلات ولم تلعب دوراً قيادياً لتفعيلها ولم تدعم الوكالة المُكلّفة بتنفيذها مع أنها تواجه ضائقة مالية. يجب أن تعرض الولايات المتحدة على وكالات الأمم المتحدة بديلاً مقنعاً عن القيم والقيادات الاستبدادية إذا أرادت زيادة فعاليتها وضمان تماشيها مع أجندتها. ستكون الحوافز المالية الإيجابية أفضل من الإنذارات الصارمة لتفعيل الإصلاحات لأن بكين تبدو مستعدة لملء الخزائن التي تُفرّغها الولايات المتحدة.

تستطيع واشنطن أن تستأنف جهودها عبر تجديد جزء من تمويلها السابق لمنظمة الصحة العالمية. ثم يمكنها أن تلتزم بزيادة ذلك المبلغ سنوياً إذا نفذت الوكالة شروطاً محددة مثل إرجاع صفة المراقب إلى تايوان في جمعية الصحة العالمية أو توظيف عدد إضافي من الأميركيين لملء المناصب الإدارية في الوكالة. حين تلتزم منظمة الصحة العالمية بهذه المعايير، يُفترض أن تقوي واشنطن النفوذ الأميركي في الأمم المتحدة عبر التشجيع على عقد شراكات في القطاع الخاص بين منظمة الصحة وشركات التكنولوجيا الأميركية التي تدير مشاريع مرتبطة بالصحة العامة العالمية.

كذلك، تستطيع واشنطن أن تتفاوض بكل شفافية حول هياكل تلك الحوافز مع وكالات الأمم المتحدة، فتثبت بهذه الطريقة اختلافها الكبير عن أسلوب بكين المبني على الصفقات السرية والإكراه. توزع الصين المكافآت وتهدد بإطلاق ردود انتقامية للضغط على الحكومات ودفعها إلى دعم سياساتها ومرشّحيها للمناصب القيادية. في المقابل، يجب أن تتعاون الولايات المتحدة مع بلدان تحمل العقلية نفسها ومع قادة الأمم المتحدة لإجراء انتخابات أكثر انفتاحاً للوكالات المتخصصة وتنظيم معايير الشفافية في عملياتها. كان لافتاً مثلاً ألا توافق منظمة الصحة العالمية على إجراء تحقيق مستقل حول أصل فيروس كورونا إلا بعدما ضغطت عليها أستراليا والاتحاد الأوروبي وأنظمة ديمقراطية أخرى علناً وحشدت دعماً واسعاً لهذه المبادرة.

أخيراً، يجب أن تحرص الولايات المتحدة على ملء المناصب الشاغرة التي تتعامل مع الأمم المتحدة داخل حكومتها ويجب أن تتابع إرسال مسؤولين رفيعي المستوى ودبلوماسيين موهوبين ومرموقين لتمثيل المصالح الأميركية هناك. يتعين عليها أيضاً أن تتعاون مع حلفائها في أسرع وقت لتحسين فرص المرشحين المدعومين من الولايات المتحدة وإيصالهم إلى مناصب قيادية في الوكالات المتخصصة المهمة.

لن تكون هذه التدابير حلاً سحرياً لجميع المشاكل، لكنها ستثبت أن الولايات المتحدة لا تزال جزءاً من اللعبة وأنها تحتفظ حتى الآن بدورها القيادي. نتيجةً لذلك، ستتحسن قدرة واشنطن على رسم النتائج أكثر مما كانت لتفعل عبر الاستسلام والانسحاب بكل بساطة.