ج. مايكل كول

الصين تلغي "خط الوسط" في مضيق تايوان: بداية أزمة؟

28 أيلول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

كانت المسألة تقتصر على رسم خط في البحر للفصل بين طرفَين عالقَين في صراع قائم منذ عقود. أُبرِم اتفاق شفهي بدل ترسيم الحدود رسمياً بناءً على الأدوات القانونية المتعارف عليها، فأصبح "خط الوسط" بمثابة قاعدة ضمنية سمحت بتقليص مخاطر وقوع الحوادث طوال عقود في مضيق تايوان الذي يُعتبر من أبرز النقاط الساخنة في العالم.

على مر السنين التزم الطرفان المعنيان، أي القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي والقوات الجوية التايوانية، بالجزء المخصّص لهما من المضيق فكانا يغيران مسارهما في اللحظة الأخيرة لتجنب العبور نحو الطرف الآخر والتسبب بأزمة من أي نوع.

باستثناء حادثة عابرة في العام 1999، استمر الاتفاق الضمني حتى آذار 2019، حين عبرت الطائرات المقاتلة "جي- 11" التابعة للقوات الجوية في جيش التحرير الشعبي خط الوسط في مضيق تايوان، فقطعت 43 ميلاً بحرياً نحو الطرف التايواني وأجبرت القوات الجوية التايوانية على إطلاق الطائرات الاعتراضية. وقع هذا التحرك "المتعمد" كما تقول تايبيه تزامناً مع إقدام بكين على تكثيف نشاطاتها العسكرية تدريجاً بالقرب من تايوان وفي محيطها، وقد استمرت هذه النشاطات حتى إعادة انتخاب الرئيسة تساي إنغ ون في تايوان، في كانون الثاني 2020، فتفوقت حينها على هان كو يو، المرشح المفضل لدى الصين. وبعد إعادة انتخاب تساي، زادت النشاطات البحرية والجوية لجيش التحرير الشعبي بدرجة ملحوظة، فوصل في مناسبات متعددة إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي في تايوان وانتهك من وقتٍ لآخر حدود خط الوسط التي أصبحت أكثــر قابلية للاختراق.



صورة التقطت في 15 يوليو 2020، نشرتها وزارة الدفاع التايوانية لسفينة حربية تطلق صاروخ هاربون أميركي الصنع خلال التدريبات العسكرية السنوية لهان كوانغ من مكان غير محدد في البحر بالقرب من تايوان.



اعتبر بعـــض المحللين هذا التصعيد في النشاطات العسكرية محاولة صينية لاستغلال انشغال الجميع بفيروس "كوفيد - 19"، لكن يبدو أن تكثيف التحركات العسكرية كان مجرّد تطور طبيعي في موقف بكين تجاه تايوان. عكست السلوكيات العدائية المتزايدة إحباطاً واضحاً في بكين وقناعة مفادها أن الوعود الصينية بـ"التوحيد السلمي" وفق معادلة "بلد واحد بنظامَين" لن تخدع 23.5 مليون تايواني رغم الحملة الدعائية الواسعة في هذا الإطار. عبّر مؤيدو استعمال القوة في الصين عن رأيهم صراحةً، فأكدوا على اقتناعهم باستحالة حل مسألة تايوان نهائياً إلا عن طريق القوة. انتشرت هذه الآراء أيضاً في وسائل الإعلام الصينية التي يسيطر عليها الحزب الحاكم، فأصبحت التهديدات بمهاجمـــة تايوان والإطاحة بقيادتها أخباراً شبه يومية. ورغم استمرار الجدل حول استعداد بكين لإطلاق حملة عسكرية كبرى للاستيلاء على تايوان، توسعت مظاهر استعراض القوة التي تهدف في الأساس إلى ترهيب تايبيه (أو حتى جمع معلومات استخبارية حول آليات الرد التايواني).

على صعيد آخر، أصبحت نشاطات القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي جزءاً من حوار ناشط بين هذه القوات وسلاح الجو الأميركي في المنطقة حيث كثّف الأميركيون وجودهم عبر إنشاء ممرات لطائرات الاستطلاع رداً على السلوك الصيني. وفي الفترة الأخيرة، استُعمل اختراق منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية وخط الوسط من جانب القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي كمؤشر على استياء بكين من زيارات مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى إلى تايوان (وزير الصحة والخدمات البشرية أليكس أزار في بداية شهر آب، ووكيل وزارة الخارجية كيث كراش في منتصف أيلول)، وإعلان الولايات المتحدة عن صفقات كبرى لبيع الأسلحة. خلال زيارة كراش، اخترقت القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي مضيق تايوان بطريقة غير مسبوقة واستخدمت في عمليتها 18 طائرة في 18 أيلول.

خلال عملية 18 أيلول، سُمِع طيار تابع للقوات الجوية في جيش التحرير الشعبي عبر اللاسلكي وهو يخبر طياراً آخر في طائرة اعتراضية تابعة للقوات الجوية التايوانية عن "عدم وجود خط وسط في مضيق تايوان". خلال الحادثة نفسها، صرخ الطيار الأول أيضاً أن تايوان "دمية بيد القوى الخارجية". لم يكن مألوفاً أن يجاهر أي طيار في جيش التحرير الشعبي بموقف سياسي من هذا النوع، ويصعب أن نعرف في هذه المرحلة إذا حصل على إذن لفعل ذلك أو كان يعبّر بكل بساطة عن عواطفه القومية المتطرفة. لكن أجّج ذلك التعليق توقعات واسعة في عطلة نهاية الأسبوع مفادها أن بكين لم تعد تريد الاعتراف بخط الوسط أو الالتزام به. سرعان ما انتهت تلك التخمينات في 21 أيلول، حين عقد وانغ وينبين، المتحدث باسم وزارة الشؤون الخارجية الصينية، مؤتمراً صحافياً وأعلن عن عدم وجود ما يُسمّى "خط الوسط" في مضيق تايوان. لا يمكن التأكيد على الدوافع الكامنة وراء توسّع سلوك بكين العدائي، لكن قد تشمل التخمينات المحتملة ما يلي:

أ) الرد على زيارات مسؤولين أميركيين مرموقين إلى تايوان وعقد صفقات كبرى لبيع الأسلحة.

ب) الحاجة إلى إيجاد مصدر إلهاء خارجي جديد إذا كان الاقتصاد الصيني في حالة أسوأ مما يُقال. قد يفسّر هذا العامل أيضاً الاشتباكات الأخيرة على طول الحدود مع الهند.

ج) تصاعد مشاعر البغض الصينية نتيجة الآراء الإيجابية التي تحصدها تايوان بسبب نجاحها في التعامل مع فيروس "كوفيد-19" ومحاربة حملات التضليل. شملت الردود الإيجابية زيارة وفد كبير من جمهورية التشيك بقيادة رئيس مجلس الشيوخ ميلوش فيستريل في بداية شهر أيلول. ربما تريد بكين تحويل الأنظار عن نجاحات تايوان المتلاحقة في الأشهر الثمانية أو التسعة الأخيرة عبر تسليط الضوء على العناصر العسكرية في مضيق تايوان.

كانت تطورات نهاية الأسبوع الماضي ثم تصريحات وانغ كفيلة بجذب انتباه الأوساط السياسية، فحاول المحللون والمسؤولون الحكوميون التحقق من تداعيات التحول الحاصل. تجدر الإشارة إلى أن "الاتفاق" حول خط الوسط في مضيق تايوان لطالما كان ضمنياً. وبالتالي يمكن اعتبار تصريحات وانغ (وكلام الطيار من القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي) مجرّد تأكيد متكرر على عدم اعتراف بكين رسمياً بوجود خط الوسط يوماً وعدم حصول أي تغيير في السياسات القائمة. لكنّ إلغاء اتفاق ضمني كانت الأطراف المعنية تحترمه سابقاً قد يشير إلى انحراف واضح عن السياسة القديمة، ما يعني تغيير قواعد اللعبة.



مضيق تايوان



تهدف هذه التطورات ظاهرياً إلى تكثيف الضغوط على إدارة تساي والتأثير نفسياً على الرأي العام التايواني عبر إقناعه بحتمية الأحداث المرتقبة وتضييق الخناق عليه. حتى الآن، لم تنجح هذه الاستراتيجية على ما يبدو وقد تترافق مع نتائج عكسية في تايوان وداخل المجتمع الدولي الذي يشعر بالقلق من التحركات الصينية التي تزعزع استقرار مضيق تايوان. لكن من المعروف أن اقتراب طائرات القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي من تايوان سيزيد في مرحلة معينة احتمال حصول صدام أو لغط أو سوء تفاهم أو تحركات جذرية (إسقاط طائرة مثلاً) ويسهل أن تخرج هذه الأحداث عن السيطرة.

إذا تحقق هذا السيناريو، ستلوم بكين تايوان على الأحداث المستجدة حتماً وتتكل على حملات التضليل لتوجيه الآراء وتعلن "اضطرارها" لاتخاذ التحركات "الدفاعية" المناسبة، فيما تسعى بكين لإقناع المجتمع الدولي بحقها في الدفاع عن نفسها. ربما ترغب بكين أصلاً في وقوع "حادث" مماثل كي تلوم تايوان وتجد مبرراً لتصرفاتها. نجحت حكومة تساي في ضبط نفسها حتى الآن، لكن قد تزيد مخاطر الصراعات حين تتعرض هذه الحكومة للضغوط كي تتخذ خطوات ملموسة رداً على هذا التحدي، لا سيما إذا اقتربت طائرات جيش التحرير الشعبي وأصبحت على بُعد 12 ميلاً بحرياً فقط من المساحات التايوانية.

هذه العوامل كلها تُصعّد الوضع على نحو خطير، وتسعى قوى بارزة في بكين إلى منع تهدئة الأوضاع بعد تأجيج مشاعر الغضب. ونظراً إلى النزعة القومية المتطرفة التي ينشرها الطاغية الصيني شي جين بينغ، يصعب أن نتوقع انسحابه في حال حصول اشتباك في مضيق تايوان.

قد لا تشكّل هذه الحملة تمهيداً لحرب وشيكة على الأرجح ولن تكون أحوال الطقس في مضيق تايوان قريباً مناسبة لشن أي عمليات عسكرية (بين تشرين الثاني وكانون الأول). لكن تعكس الأحداث المستجدة جولة جديدة من الحرب النفسية القائمة ضد تايوان وفرصة قيّمة لجيش التحرير الشعبي كي يجمع المعلومات الاستخبارية ويقيّم ردود القوات الجوية التايوانية. لقد دخلنا حتماً في أخطر مرحلة من العلاقات العابرة للمضيق منذ العامين 2003 و2004، أو حتى منذ أزمة صواريخ مضيق تايوان بين 1995 و1996.


MISS 3