خطابات بارزة تخلَّلت حفل "الأوسكار" السّابع والتّسعين، لعلَّ أكثرها تأثيراً في المجتمع السّينمائي، تلك الكلمات التّي ختم بها المُخرج والكاتب Sean Baker فوزه القياسي بأربع "فئات أوسكاريّة" عن فيلمه "Anora" قائلاً: "أين وقعنا في حب السينما؟ في صالة السينما"، ليحثَّ صُنّاع الأفلام على "الاستمرار في صنع أفلام للشّاشة الكبيرة" حتى نتمكن من الحفاظ على "تجربة جماعيّة لا يمكننا الحصول عليها في المنزل". كذلك فازت الممثّلة الرّئيسيّة في الفيلم Mikey Madison بجائزة "أوسكار أفضل ممثّلة"، ليتربّع الفيلم مع خمس "جوائز أوسكار" على عرش حفل هذه السّنة! وفي ضوء هذا الفوز الكبير والتصريحات المؤثّرة، كثرت التّساؤلات عن أهميّة الفيلم وجدارته، خاصّةً أنه لم يحظَ بإصدار سينمائي واسع النّطاق عالميّاً وهو ليس متوفّراً على المنصّات إلّا عبر الإيجار الفردي. فلِمَ حقَّق "Anora" هذا "الانتصار الأوسكاري الكبير"؟
عُرض فيلم "Anora"، الذي يروي قصَّة بائعة هوى تُغرم وتتزوّج من ابن زعيم أوليغارشي روسي، لأول مرَّة في "مهرجان كان السّينمائي" العام الماضي، ليفوز حينها بالجائزة الأرفع، "السّعفة الذهبيّة". قبل هذا النّجاح، استحوذت على حقوق توزيعه في الولايات المُتّحدة، شركة "Neon" لتجعل مساره مُشابهاً لأحد أهم أفلام العقد الأخير "Parasite". فقد طبَّق الموزع خطَّةً مطابقة لكلا الفيلمين:
أولاً، الظهور الأول المُبكّر في "كان" الذي سمح للثّناء النّقدي بالتراكم ببطء طوال الصيف. ثانياً، طرْحٌ بطيء أدّى إلى بناء سُمعة شفهيّة لدى الجمهور طوال الخريف.
كما كان للفيلمين أسلوب مُثير يخطف الأنفاس ويتخطى الأنواع المعتادة، ما أثار حماس الجمهور وتأثّره، خاصّةً أنّ الفيلمين مُتجذّران بشدّة في الحاضر، مقابل الأفلام التي بدت مشغولة بالماضي (مثل فيلم "1917" بمواجهة "Parasite"، و "The Brutalist" بمواجهة "Anora").
مصائب "Emilia" فوائد "Anora"
وعندما أُعلن عن ترشيحات "الأوسكار"، تصدَّر فيلم "Emilia Pérez" القائمة بـ 13 ترشيحاً، لينضم إلى عمالقة الأوسكار التاريخيّين مثل "From Here to Eternity"، و "Gone with the Wind"، و "Forrest Gump"، و "Oppenheimer". وشعرت "Netflix" أخيراً بالحصول على فائز حقيقي بين يديها، سيجعلها تدقّ الأجراس احتفالاً بأنها ليست مجرّد موقع بثّ "دَمَّرَ" دُور السينما، بل إنها ستوديو سينمائي حقيقي. وعلى الرّغم من معارضة المكسيكيّين ومجتمع الميم للفيلم، (مراجعة مقالنا في العدد 1497 - 01-02-2025 حول ترشيحات الأوسكار)، لم تتحطّم آمال وحظوظ "Netflix" لولا التّغريدات العنصريّة المتشدّدة لنجمة الفيلم Karla Sofia Gascon التي سخرت فيها من "حفل الأوسكار" وشبّهته باحتجاجات حركة "Black Lives Matter"، أو أنّه مهرجان سينمائي أفريقي-كوري وليس حفل توزيع جوائز، إضافةً إلى تذمّرها من الإسلام في إسبانيا. فانتهت "الرحلة الأوسكاريّة" للفيلم بجائزتَين فقط (أفضل ممثّلة مساعِدة، وأفضل أغنية)، مُسهّلاً المهمّة أمام فوز "Anora"، خاصةً بعد حصول الأخير على "جوائز النقابات الأميركيّة الثلاث"، من المنتجين والمُخرجين والكُتّاب، حيث أنَّ التّاريخ يشهد بأنّهُ لم ينجح أي فيلم في انتزاع تلك الجوائز الثلاث ليخسر بعدها "أوسكار أفضل فيلم"، باستثناء فيلم "Brokeback Mountain" عام 2006، الذي خسره أمام فيلم "Crash".
سينما الواقع الجديد والتحدّيات
لقد أثبت صانع الأفلام والمؤلّف Sean Baker، خلال السّنوات العشر الأخيرة، براعته في قيادة "سينما الواقعيّة الأميركيّة الجديدة" (American Neorealism)، عبر أفلام مثل "Tangerine"، و "The Florida Project"، و "Red Rocket"، وآخرها Anora، في تسليط الضوء على شخصيات المجموعات والمجتمعات المُهمَّشة، بدلاً من اتّباع أسلوب هوليوود في سرد القصص، حيث يؤطّر Baker صراعات الحياة اليومية بإنسانية وتعاطف، ناهلاً من المرجع الرئيسي في "سينما الواقعيّة الإيطاليّة الجديدة" (Italian Neorealism) (مراجعة مقالنا في العدد 1491 - 25-01-2025 حول السّينما الايطاليّة). لذا، وإضافةً إلى أسلوبه السّينمائي الـ "Minimalist" الذي يروي القصّة باستخدام مباشر للكاميرا مع حدّ أدنى من العناصر المُكمّلة (موسيقى تصويريّة، ديكور، ...)، تمكَّن الفيلم من تجسيد أيديولوجية سياسات "الهوية اليساريّة" و "الحزب الديمقراطي" الرّافض توطيد العلاقات الحاصل حاليّاً مع روسيا في عهد الرئيس دونالد ترامب، خاصّةً بعد خسارة فيلم "Emilia Pérez"، الذي يدور حول امرأة متحوّلة جنسياً ذات بشرة داكنة، والذي كان من المفترض أن يوجّهوا من خلاله ضربة قويّة في وجه العهد الحالي... ففشلوا.