آدم شيف

الاستخبارات الأميركية ليست مستعدة لمواجهة التهديد الصيني

7 تشرين الأول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

يشهد العالم عودة واضحة للاستبداد في كل مكان ويطرح هذا الوضع تحدياً صعباً على فكرة الديموقراطية الليبرالية. أصبحت الصين، بقوتها الاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية المتزايدة، في طليعة هذا التحدي الاستبدادي الجديد. تسعى بكين إلى بناء عالمٍ يتقبّل طموحاتها بلا رادع وتُمهّد الحريات الفردية فيه لتلبية حاجات الدولة. يجب أن تكون الولايات المتحدة على مستوى هذا التحدي، وتبدأ هذه المهمة بفهم نوايا الصين وقدراتها.

أمضت اللجنة الاستخبارية في مجلس النواب الأميركي آخر سنتين وهي تدقق بجهاز الاستخبارات الأميركي لمعرفة مدى تركيزه وتحديد مكانته وموارده وفهم مختلف أبعاد التهديد الصيني والاستعداد لطرح التوصيات أمام صانعي السياسة حول طريقة التجاوب المثلى. خصّصت اللجنة مئات الساعات لإجراء المقابلات وزيارة المنشآت التي تديرها 12 وكالة استخبارية، وراجعت آلاف التقييمات التحليلية لإعداد تقرير سري يترافق مع ملخّص عام وتوصيات مناسبة.

توصلت اللجنة في النهاية إلى استنتاجات مقلقة. فقد تبيّن أن وكالات الاستخبارات الوطنية ليست جاهزة بأي شكل لمواجهة المستجدات. ما لم يُراجع تنظيم الموارد والمنظمات، لن تصبح الولايات المتحدة مستعدة لمنافسة الصين على الساحة العالمية خلال العقود المقبلة.


الصين وطموحاتها المتجددة

تحولت الصين إلى قوة عالمية بوتيرة متسارعة وصادمة وتطورت طموحاتها بإيقاع أسرع بعد. يريد قادة الحزب الشيوعي الصيني إعادة الصين إلى مكانتها المستحقة كـ"مملكة وسطى" عبر تحقيق ما تسمّيه قيادة الحزب الحاكم "تجديد الوطن الصيني". ربط الرئيس شي جين بينغ بكل وضوح بين هذا المفهوم وتطوير جيش "من الطراز الرفيع" يستطيع الدفاع عن مصالح الصين المحورية وتطبيق مبدأ "بلد واحد بنظامَين" في هونغ كونغ وتايوان وإلغاء "الحكم المتساهل والضعيف" داخل الحزب الشيوعي الصيني. بالإضافة إلى الجوانب الداخلية لعملية التجديد هذه، تعتبر بكين نفسها مع مرور الأيام قوة بارزة تستطيع فرض شروطها على الدول المجاورة لها لتحقيق طموحاتها العالمية. لبلوغ هذا الهدف، طوّرت بكين نظاماً واسعاً من السيطرة المحلية للحفاظ على نفوذها والتحكم بالمعلومات. أصبح هذا النموذج من التوتاليتارية المبنية على التكنولوجيا نوعاً من الصادرات الصينية المتزايدة، وهو يسمح لبلدان استبدادية أخرى بالسير على خطى الصين.





يتّضح المستوى المقلق الذي وصلت إليه الحكومة الصينية في مساعيها لتطوير نموذج من القمع المحلي في منطقة "شينجيانغ" الغربية، حيث تعيش جماعة الإيغور في سجن شاسع يخضع لمراقبة مستمرة ولا يتواصل مع العالم الخارجي. لم تكتفِ بكين بفرض سيطرتها فحسب، بل حاولت أيضاً تدمير طائفة الإيغوريين وثقافتهم ومجتمعهم وشيّدت معسكرات اعتقال تشمل الملايين منهم. يعكس وضعهم أسوأ انتهاكات لحقوق الإنسان في القرن الواحد والعشرين.

تعتبر الصين أن المنافسة التي تخوضها مع الولايات المتحدة لها طابع إيديولوجي وتتجه إلى نتيجة لا غالب ولا مغلوب. حاولت بكين عصرنة جيش التحرير الشعبي، وتطوير عقيدة خاصة بمجالات جديدة مثل الفضاء والعالم الإلكتروني لإعادة تعريف المفاهيم القائمة حول مسار الحروب في القرن الواحد والعشرين، وتوسيع ساحة المعركة كي تشمل الخطاب السياسي والأجهزة الخليوية والبنى التحتية التي تتكل عليها الاتصالات الرقمية والمجتمعات المعاصرة. في هذا السياق، سعى الصينيون أيضاً إلى تشويه الحقائق الجليّة حول فيروس كورونا، فمنعوا العالم من رصد أولى مؤشرات الوباء ودعموا حملات التضليل للوم أي طرف آخر إلا الصين على ظهور الفيروس وانتشاره السريع.


إعادة التنظيم عامل ضروري

كي تستبق الولايات المتحدة المشاكل وتتعامل مع الوضع بفعالية، يحتاج الأميركيون إلى خبرة وكالاتهم الاستخبارية. لكن تكشف المراجعة الأخيرة وجود نواقص كثيرة في خبرة الأوساط الاستخبارية في الملف الصيني. بعد هجوم 11 أيلول، غيرت الولايات المتحدة ووكالاتها الاستخبارية وجهتها سريعاً نحو جهود مكافحة الإرهاب لحماية البلد. كانت تلك التحركات ضرورية وناجحة عموماً، لكن تلاشت في المقابل قدرات الأميركيين ومواردهم بسبب انشغالهم بمهام أخرى لها الأولوية. في غضون ذلك، حوّلت الصين نفسها إلى بلد قادر على خطف مكانة الولايات المتحدة والتحول إلى قوة رائدة في العالم. تزامناً مع هذا التحول، استمرت سيطرة الصين على بيئة المعلومات الداخلية وعملية صنع القرار الغامضة وأزعجت بذلك القادة الأميركيين في خضم سعيهم إلى تطوير سياسة عقلانية ومؤثرة تجاه الصين.

إذا عجز الأميركيون في المرحلة المقبلة عن توقع نوايا الصين وتصنيفها بدقة، سيجدون صعوبة مستمرة في فهم طريقة صنع القرارات في قيادة الحزب الشيوعي الصيني وأسباب تحركاتها ولن يجيدوا التجاوب معها بالشكل المناسب. لكن من الناحية الإيجابية، سيتسنى لهم أن يغيروا مسارهم.

أولاً، يجب أن تعيد وكالات الاستخبارات الأميركية تنظيم مواردها وموظفيها لمواجهة التحديات التي تطرحها الصين سريعاً، على أن تمتد هذه الجهود إلى جميع الوكالات المعنية. لا يمكن النظر إلى الصين من منظور آسيا حصراً بل يجب أن يتم التعامل معها من منطلق العمل الاستخباري ومهامه الوظيفية. ينطبق هذا المبدأ تحديداً على الإمكانات الأميركية التي تطلق التحليلات والتحذيرات حول التهديدات "الناعمة"، على غرار الأوبئة والتغير المناخي والنزعات الاقتصادية، فقد أثبتت أحدث التجارب أن هذه العوامل قد تترافق مع عواقب وخيمة على الأمن القومي. تعطي الأوساط الاستخبارية الأولوية للمسائل التحليلية المرتبطة بالصين، لكن يجب أن تُركّز أيضاً على مجالات المنافسة التي تضمن النجاح للولايات المتحدة.

ثانياً، يجب أن تُحسّن وكالات الاستخبارات أداءها كي تتكيف مع الكميات الهائلة من البيانات مفتوحة المصدر حول التهديدات العالمية والمنافسين وكي تنقل المعلومات الاستخبارية التي تجمعها سريعاً إلى صانعي القرار. ونظراً إلى إيقاع الأحداث العالمية المتسارعة، بسبب مواقع التواصل الاجتماعي والاتصالات الخليوية جزئياً، يجب أن تتكيف هذه الوكالات مع المستجدات بسرعة وتعمل على تحديث نفسها. بعبارة أخرى، عليها أن تستعمل الذكاء الاصطناعي وتقنية التعلم الآلي بالشكل المناسب لتحليل البيانات وتحديد المواضيع التي تحتاج إلى قرارات عاجلة. كذلك، يُفترض أن تُكلّف منظمة خارجية بإجراء دراسة حول متابعة الوكالات للمهام الاستخبارية مفتوحة المصدر وتطرح توصيات رسمية لتحديث وتقوية نظامها وقدراتها. على صعيد آخر، يجب أن يعطى مجتمع الاستخبارات الأولوية لرفع المبادرات الناجحة إلى مستوى العمليات المستدامة على المدى الطويل في أسرع وقت ممكن، ما يسهم في حماية التمويل المخصص للابتكارات المستقبلية عند الإمكان.





ثالثاً، يجب أن يغيّر الأميركيون نظرتهم إلى التهديدات الصينية. لا تطرح بكين تهديداً عسكرياً بكل بساطة بل تطاول تهديداتها المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والصحية وقطاع مكافحة التجسس. تتطلب معالجة هذه الأبعاد كلها إعادة تنظيم أنواع الأفراد والمهارات التي تجنّدها الوكالات وتحتفظ بها وتستثمر فيها وتعطيها تصاريح أمنية. قد تفعل ذلك عبر توظيف محللين لديهم خلفيات غير تقليدية في مجالات التكنولوجيا والعلوم. كذلك، يجب أن يوسّع مجتمع الاستخبارات ممارساته في مجال توظيف الخبراء التقنيين، منهم اختصاصيون في الصحة والتكنولوجيا وخبراء اقتصاد، على أن يعملوا جميعاً في الأقسام التحليلية. ويجب أن تطوّر الاستخبارات البرامج المُصمّمة لتوظيف وتدريب الجيل المقبل من محللي الشؤون الصينية وتعطيها طابعاً رسمياً. لهذا السبب أيضاً، يُفترض أن تستخلص الوكالات الاستخبارية واحداً من أفضل الدروس من مهام مكافحة الإرهاب وتعزز الدعم الاستخباري في ملف الصين في الوقت الحقيقي داخل وكالات مختلفة، لا سيما تلك التي تنشط خارج وزارة الدفاع الأميركية، مثل مكتب ممثل التجارة في الولايات المتحدة، ووزارة التجارة، ووكالات العلوم والصحة التي تعمل على الخطوط الأمامية لهذا الصراع الجديد ومتعدد الأبعاد.

أخيراً، يجب أن يتابع مجتمع الاستخبارات الأميركي إعطاء الأولوية للتحديات التي تطرحها الصين في مجال مكافحة التجسس. إلى جانب التهديد المعروف الذي يشتق من الأجهزة الاستخبارية الصينية، ثمة مجموعة أخرى من الجهات والعمليات الصينية المؤثرة، علماً أن "قسم عمل الجبهة المتحدة" التابع للحزب الشيوعي الصيني يموّل وينظم عدداً كبيراً منها. وفق تقرير القوة العسكرية الصينية الصادر عن وزارة الدفاع الأميركية في العام 2019، استهدفت الجهود الصينية المؤثرة المؤسسات الثقافية والمكاتب الحكومية على مستوى الدولة والبلديات، ووسائل الإعلام، والمعاهد التعليمية، والشركات، والمنظمات البحثية والأوساط السياسية. يتعين على الحكومة الأميركية إذاً أن تزيد قدرتها على تصنيف تلك العمليات الصينية التي تحصل على الأراضي الأميركية وتعمل على تعطيلها وردعها.

لقد أصبح واضحاً الآن أن الولايات المتحدة لا تستطيع التخلي عن قيادة العالم لأن الصين، بنواياها الخبيثة، ستسارع إلى سدّ الفراغ بكل سرور إذا أقدم الأميركيون على هذه الخطوة. فيما تصارع واشنطن لمواجهة تهديدات الصين، يجب أن تكثف التزاماتها تجاه بقية بلدان العالم وتحرص في الوقت نفسه على دعم الديموقراطيـــة وحقوق الإنسان. لكن رغم كثرة الكلام في واشنطن عن ضرورة اتخاذ "مقاربة صارمة تجاه الصين"، بقيت تحركات مجتمع الاستخبارات الأميركي متواضعة لأن الأفعال، على عكس الأقوال، تتطلب القيام بخيارات صعبة حول تأمين التمويل وتحديد الأولويات. لكن يجب ألا يتهرب أحد من هذه الخيارات رغم صعوبتها، بل من الأفضل أن يواجهها الأميركيون قبل أن يفوت الأوان على التحرك. ما لم يتدرب الجهاز الاستخباري الأميركي على نشاطات بكين الخبيثة حول العالم، لن يعاني الأمن القومي في الولايات المتحدة وحده حينها بل ستمتد التداعيات أيضاً إلى الاقتصاد والأمن الصحي والتفوق التكنولوجي.


MISS 3