نجم الهاشم

حرب العشائر... قدّم سلاحك

10 تشرين الأول 2020

02 : 00

سلاح متوسط
ليست المرّة الأولى التي تحصل فيها اشتباكات مسلّحة بين المسلّحين التابعين للعشائر في بعلبك والهرمل وغيرهما. ولكنّها ربّما المرة الأولى التي يحصل فيها مثل هذا الإستعراض بالسلاح في الأحياء وعلى الطرقات وتقام الحواجز، مع التهديد بالقتل بين آل جعفر وآل شمص، وكأنّ عمليات الثأر لم تعد فردية وعائلية بل تحوّلت إلى مشكلة سلاح ومسلحين وحرب شاملة بالمفهوم البعلبكي العشائري.





على مدى أيام ظهرت غابة السلاح وغابت الدولة وحضر الحلّ على قاعدة العرف والشرع لتطرح معه مسألة مصير هذا السلاح. قبل استعداد عشيرتي شمص وجعفر للحرب شهدت مناطق بعلبك والهرمل وفي شكل دائم ومستمر جولات من حروب العشائر التي لم تستثن أيّاً منها ربّما. انتهت الحرب الداخلية في العام 1990 مع اتفاق الطائف وحلّ الميليشيات باستثناء "حزب الله" ولم تنته الحروب الصغيرة في بعلبك والهرمل، وقد تركّزت في الغالب في حي الشراونة وأحياء أخرى وفي دار الواسعة. من يبحث في تاريخ هذه الحروب يجد تواريخ كثيرة لجولات بين العائلات: علّو وجعفر وزعيتر والمقداد وناصرالدين وشمص وصلح ووهبة والجمل... وتكاد شرارات هذه الحروب تنتقل أحياناً وغالباً إلى أحياء في الضاحية الجنوبية تحتمي فيها العائلات البعلبكية التي أسّس بعضها أجنحة عسكرية.



الثأر على المقابر

في 24 أيّار 2016 ثأر معروف حميّة لمقتل ابنه الشهيد العسكري في الجيش اللبناني محمد حميّة عندما خطف حسين الحجيري، ابن شقيق الشيخ مصطفى الحجيري الملقب أبو طاقية، واقتاده إلى مقبرة طاريّا حيث مدفن ابنه محمد الذي قتلته جبهة النصرة بعد خطفه مع العسكريين من عرسال. هناك قتل معروف حسين بأكثر من ثلاثين رصاصة وخرج إلى التصريح عبر وسائل الإعلام معلناً أن ثأره لم ينتهِ وأنّه لن يسلِّم نفسه قبل أن يأخذ بالثأر الكامل لابنه. ذلك أن حسين لم تكن له علاقة مباشرة بالقتل إلا أنه اختير لهذه النهاية بسبب كونه ابن شقيق من اتّهمه معروف حمية بأنّه كان مع النصرة وحمّله مسؤولية قتل ابنه.

حتى اليوم لم يتم اعتقال معروف حمية. ولم تنته قصّة الإنتقام على رغم أن أبو طاقية صار موقوفاً لدى القضاء اللبناني. ولكن بين القضاء الرسمي والقضاء الثأري مسافة طويلة من الغربة عن الدولة وعن القوانين الوضعية. على طريقة قتل حسين الحجيري تم قتل عباس شمص في بعلبك. ذهب القتيل بجريرة أخوين له متهمين بقتل أحد أبناء عائلة جعفر عيسى علي جعفر في العام 2017. وعلى رغم الإحتكام إلى القضاء والتسليم بالعدالة تم اختيار عباس ليكون ثمن الثأر. لم يتمّ الإكتفاء بتنفيذ الجريمة بل ذهب الفاعلون إلى ديارهم للإحتفال بإطلاق النار والقذائف في الهواء وكأنّهم يعلنون انتصارهم على الذلّ الناتج عن التأخّر في عدم الثأر ويريدون أن يشعِروا أهل القتيل وعشيرته بهذا الذلّ. تبادل المشاعر لم يسمح لآل شمص بالصمت والسكوت لأنّه لا بدّ من محو العار الذي لحق بهم. ولذلك استعدّوا للردّ.



الشيخ يزبك



حرب الخنادق

المسلّحون الذين ظهروا من عائلتي شمص وجعفر لم يكن تسليحهم عاديّاً. بدوا منظّمين ومنتظمين ومجهّزين بأسلحة رشاشة مركزة على سيارات جيب تذكّر بمشاهد الحرب الأهلية ومعهم قاذفات صاروخية. هؤلاء المسلحون الذين كانوا على أهبة الإستعداد لخوض معركة دامية ربّما هم أنفسهم كانوا يقاتلون جنباً إلى جنب في حروب "حزب الله" في سوريا. حرب الخنادق ضد مسلحي القاعدة والنصرة والتنظيمات الأصولية تجعلهم جنباً إلى جنب والخنادق المتقابلة في بعلبك تجعلهم أعداء يقتل بعضهم بعضاً. المسألة لا تتعلّق بما يحصل بين العائلتين وحدهما إنّما هي باتت مسألة شيعية بامتياز، خصوصاً لجهة ما يتعلّق منها بحصرية السلاح الشيعي الذي يهيمن عليه "حزب الله" ويبدأ من رصاص المسدسات ولا ينتهي بالصواريخ. هل بات هذا السلاح عبئاً على الشيعة؟ وهل بات خطره عليهم يوازي خطره على غيرهم؟ وهل تحوّل من سلاح للدفاع عن النفس إلى سلاح للإقتتال الداخلي؟

على رغم تمدّد التوتر بين عائلتي شمص وجعفر على مدى أيام وعلى رغم غياب الأجهزة الرسمية عن التدخّل وكأنّ الأمر لا يعنيها، فإنّ الملاحظ كان أنّ "حزب الله" لم يتدخّل أيضاً. في النهاية تمّ ترك الأمر ليُحلّ على الطريقة العشائرية. فقد تسلمت لجنة مؤلفة من "حزب الله" ممثلاً بالشيخ شوقي زعيتر وحركة "امل" ممثلة بالحاج مصطفى السبلاني ومن العشائر والعائلات في محافظة بعلبك الهرمل، وبرضى الطرفين من عشيرتي شمص وجعفر، زمام حلّ الخلاف بين العشيرتين على قاعدة الشرع والعرف العشائريين. وزارت اللجنة عشيرة آل شمص في بوداي وعشيرة آل جعفر في حي الشراونة، وأثنت على موقف العشيرتين لتجاوبهما التام مع مقترحات ومطالب اللجنة. وعلى هذا الأساس تم إطلاق مبادرة عشائرية، بمباركة حزبية، لحل الخلاف بين العشيرتين وانهاء الظهور المسلح، من مكتب الوكيل الشرعي للامام الخامنئي في لبنان الشيخ محمد يزبك وبحضور نوّاب المنطقة، خلال لقاء جمع ممثلين عن كافّة عشائر وعائلات بعلبك الهرمل يوم الخميس الماضي. في هذا اللقاء قال الشيخ يزبك: "لا نقبل أن يكون بين بعضنا البعض متاريس أو قرى بوجه قرى أخرى وحواجز، لذلك يجب أن نكون كلّنا موقفاً واحداً موحّداً وأن ندين من يقوم بالجريمة ونسمح للدولة والقضاء أن يتمّ الحكم بالعدل ونحن مع تسليم الامور الى القضاء ليحكم بالحق". هذا الكلام ربما يقال مثله في كل مرة تحصل فيها عمليات قتل وثأر ولكن لا يترك أي أثر بحيث تبقى الأمور فالتة خارج إطار السلطات الرسمية والقضاء. ومن اللافت أن هذا الخيار كان تمّ اعتماده بعد جريمة 2017 وقتل عيسى علي جعفر ولم يمنع قتل عباس شمص.



معروف حميّه



السلاح الشيعي

في مثل هذه الأيام من العام 1983 بدأت مشكلة الطائفة الشيعية مع الدولة كدولة ومع السلاح عندما انتفضت الطائفة ضد سلطة الدولة على عهد الرئيس أمين الجميل. صحيح أن السلاح الشيعي كان ظهر إلى العلن منذ العام 1974 مع الإمام موسى الصدر مطلق شعار "السلاح زينة الرجال" وبعد تأسيس "حركة أمل"، ولكنّه لم يكن سلاحاً مقرّراً في الحروب اللبنانية الكثيرة. وقبل العام 1982 كانت أكثر المواجهات تحصل بين هذا السلاح وبين السلاح الفلسطيني. بعد العام 1982 وتأسيس الحرس الثوري الإيراني لما سيصير لاحقاً "حزب الله" برز دور هذا السلاح أكثر ليحمل عبء مواجهات كثيرة جديدة في هذه الحروب المتوالدة. من انتفاضة الضاحية في أيلول 1983 إلى انتفاضة 6 شباط 1984 إلى الحرب ضد "المرابطون" في أيار 1985، إلى حرب المخيمات الممتدّة على مدى أعوام من بيروت إلى صيدا وصور، إلى المعارك مع الحزب "التقدمي الإشتراكي" في تشرين 1985 وشباط 1987، إلى الحرب الأكبر بين حركة "أمل" و"حزب الله" حتى العام 1990 وصولاً إلى الجولات الواسعة مع العدو الإسرائيلي في تموز 1993 ونيسان 1996 وأيار 2000 وتموز 2006، بما فيها من محطات متفرقة واغتيالات وعمليات أمنية لم تنته بعدما امتدّت إلى الأراضي السورية التي شهدت فصولاً منها.

يستطيع "حزب الله" مثلاً أن يدير حرباً ضدّ اسرائيل كما حصل في تموز 2006، ويستطيع أن يخوض معارك متحركة ضد التنظيمات المعارضة في سوريا وعلى جبهات واسعة، ويستطيع أن يتحمّل سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى وأن يتكبّد الخسائر الباهظة، ولكنّه لا يمكنه أن يتحمل حرباً ولو محدودة بين آل جعفر وآل شمص داخل بيئته. أي معركة من هذا النوع تشكل مقتلاً له ونهاية لدوره وتدميراً ذاتياً لبيئته الحاضنة.

إستطاع "الحزب" أن يحتكر امتلاك السلاح بعد الطائف وبعد انتصاره على حركة "أمل" عسكرياً ونتيجة الرعاية السورية والإيرانية لدوره. اليوم بعد الدخول في الإطار المنظّم للمفاوضات اللبنانية الإسرائيلية لترسيم الحدود البرّية والبحرية، وبعد قبول "حزب الله" وحركة "أمل" بالكلام عن إسرائيل والأراضي الإسرائيلية بدل العدو الإسرائيلي، والتسليم بمبدأ المفاوضات طريقاً للحلّ ماذا يبقى من دور لهذا السلاح؟

عندما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أواخر أيلول 2018 لائحة أهداف مخازن صواريخ لـ"حزب الله" سارع وزير الخارجية جبران باسيل إلى تنظيم جولة إعلامية لنفي هذه المزاعم. عندما كرر نتنياهو نفسه الأمر في آخر أيلول 2020 في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله يلقي خطاباً مباشرة على الهواء وسارع إلى طلب التوجه إلى المكان المحدد في الجناح ليشاهد الناس مباشرة على الهواء كذبة نتنياهو.

ثمة فارق كبير بين ما حصل في آخر أيلول 2020 وبين ما حصل في 14 تموز 2006 عندما دعا نصرالله مشاهدة البارجة الحربية الإسرائيلية تحترق في البحر.