د. ميشال الشماعي

التغيير الكيانيّ مرفوض

10 تشرين الأول 2020

02 : 00

نجح مِحور الممانعة برئاسة "حزب الله" في لبنان، بإقناع الأوروبيّين بالغُبن اللاحق به، نتيجة دستور الطائف الذي، بحسب رأي هذا الفريق، قد أنصف المكوّن الحضاري السنّي على حسابه الخاص، ومن الحصّة المسيحية الوازنة في الدولة لتكرَّس عمليّة المناصفة في صلبها مرّة للمرّات كلّها. والتاريخ لن يعود إلى الوراء. لكنّ المحاولات في إقناع الأوروبي بضرورة تقاسم النظام مع المكوّن السنّي هي باطلة، والحقيقة في مكان آخر، حيث ستكون من صلب المكوّن المسيحي مجتمعاً. وهنا الخلل الأساسي في التغيير الكياني، وهو بالطبع مرفوض مرفوض مرفوض. فما هي آفاق الحديث المطّرد عن تغيير في تركيبة جوهر النّظام اللبناني؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ للتبدلات الديموغرافية دوراً أساسياً في بناء الأوطان، لكن ما يجب التنبّه إليه أنّ الديموغرافيا لا يمكن أن تكون انتقائية بحسب الأهواء الحضارية، وغبّ الطلب. فالمجتمع اللبناني ليس محصوراً فقط داخل الحدود اللبنانية، أي الـ 10452 كم²، وهذه ظاهرة تميّز الوجود اللبناني حيث يكاد لبنان أن يكون البلد الوحيد في العالم الذي يفوق فيه عدد المنتشرين في الأصقاع الأربعة عدد المقيمين داخل حدوده الطبيعية. وهذه ظاهرة لا يمكن التغاضي عنها، ولا يستطيع أيّ فريق، مهما بلغ شأنه، أن يقفز فوق هذه الحقيقة، حيث بات الإنتشار اللبناني بدوره انتشاراً كيانياً لا يقلّ أهميّة عن الوجود الكيانيّ. من هذا المنطلق، أيّ حديث عن أيّ تغيير في تركيبة النظام لا يراعي هذه الظاهرة فهو ساقط أبريورياً، ولن يكتب له النجاح. وما لن يكون الإنتشار فاعلاً في هذه اللحظة التاريخيّة اليوم فهو حتماً سيكون في غيرها. لكن على ما يبدو انّ للإنتشار اللبناني دوراً بارزاً حيث بات فاعلاً في مواقع القرار الدولي. ولن يستطيع أيّ فريق لبناني أن يفرض وجهة نظره مهما امتلك من قوّة، بالسلاح أو بالسياسة أو حتّى بالأحلاف الدولية، أن يتجاوز هذا الواقع الكياني.

وعلى ما يبدو، الانتشار اللبناني ستكون له الكلمة الفصل في مواكبة الطرح البطريركي حول قضيّة حياد لبنان. لا بل تقع على عاتقه المسؤوليّة الكبرى في تسويق هذا الطرح دولياً، لأنّه خشبة الخلاص الوحيدة لاستكمال بناء لبنان الكبير. وما رفضه البطريرك حويّك، لا سيّما باستثناء جبل عامل من صلب الكيانية اللبنانية، هو محفور في وجدان بكركي، وغير قابل للنقاش. فلبنان بكركي واضح المعالم الحضارية، حتّى لو أراد أي مكوّن تشويه هذه الصورة فهذه مسألة مقفلة غير قابلة لأيّ نقاش كياني على قاعدة تبدّل الأحلاف والقوى الإقليمية؛ فما يصحّ اليوم خارج الكيانية اللبنانية نتيجة لتنازلات وأحلاف هو ظرفي سرعان ما سيزول مع زوال المسبّب. لن يكتب لتسييل السلاح أو القوّة العسكرية سياسياً أيّ نجاح خارج الاطار الكياني اللبناني. فالكيانية اللبنانيّة هي الثابت الوحيد للبنانيين كلّهم. ومَن لم يدرك بعد هذ الواقع فمشكلته مع حقيقته الشخصية الكيانية.

من هذا المنطلق، يأتي الحديث المطرد عن تغيير ما في النظام اللبناني؛ وهذه المسألة لن تتحقّق إلا وِفق تصحيح الشروط الكيانية لتثبيت لبنان الكبير أكثر في صلب خريطة الشرق الأوسط التي تتعرّض بدورها لتبدّلات جيوسياسية، لكن الثابت الوحيد فيها هو العنصر الجيوبوليتيكي الذي استطاع العدوّ الإسرائيلي الإلتفاف عليه فانتقل بمفاوضاته الثنائية مع الدول العربية إلى حدود إيران، عوض أن تثبّت هذه الأخيرة وجودها في صلب القضية العربية عبر "حزب الله" في لبنان على حدود إسرائيل نفسها. وهذا هو الواقع الجديد الذي يجب التعامل معه. من هنا، نستطيع فهم مسارعة الجانب اللبناني إلى الإعلان عن البدء بالمفاوضات حول ملفّ الترسيم الحدودي بشقّيه البحري والبرّي، وذلك ليستطيع نزع هذا الفتيل والإلتفاف بدوره على ما تخطّط له إسرائيل. لذلك كلّه، صار الحديث عن تغيير في النظام اللبناني غاية للبنانيين كلّهم، لكن لكلّ منهم وجهة نظره المختلفة عن الآخر. يبقى أنّ الثابت الوحيد الذي لا يمكن تبدّله في أيّ نظام قد يطرح، هو المناصفة التي تحوّلت في نظام الطائف بدورها إلى مناصفة كيانية لا يمكن المسّ بها. وهذا ما يعني سقوط أيّ صيغة قد تلتفّ عليها. يبقى أنّ تطبيق الطائف المُعتور بعد هذه السنين من إقراره، هو الخطأ الكياني الذي وجب تصحيحه، على قاعدة تطبيقه الحقيقي لتطويره تنفيذياً، لا سيّما في ما يتعلّق بموضوع اللامركزية الموسّعة، لتواكب عمل الإنتشار اللبناني وبكركي، حتّى الوصول إلى إقرار صيغة الحياد الناشط أممياً.


MISS 3