الراعي: قلقنا يتعاظم إذا تعثر تأليف حكومة إنقاذية غير سياسية

12 : 04

 ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي قداس الاحد في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه المطرانان حنا علوان وأنطوان عوكر، في حضور القنصل الفخري لجمهورية موريتانيا ايلي نصار وعائلة الراحل أنطوان بخعازي، وألقى الراعي عظة بعنوان "من تراه العبد الأمين الحكيم" ، قال فيها:

"1. لفظة عبد في الكتاب المقدس تشتق من اللفظة السريانية التي تعني "صنع الله" وبالتالي "عابد الله" المحبوب والمختار من الله لواجب ورسالة في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. نحن كلنا في حالة إختيار ووكالة: موكلون على حياتنا الشخصية، كما وعلى حياة الآخرين، لأنها عطية من الله، وهو سيدها؛ وموكلون على واجب الحالة التي نحن فيها؛ وموكلون على أية مسؤولية مناطة بنا. نحن وكلاء، أَدعينا عبيدا أم خداما. والمطلوب منا "أن نكونَ أمناءَ وحكماءَ".إننا نلتمس اليوم من الله فضيلتي الأمانة والحكمة.

2. إننا نرحب بكل المشاركين في كنيسة الكرسي البطريركي في بكركي، وأحيي على الأخص عائلة المرحوم أنطوان بخعازي، زوجته السيدة رينه رعيدي وإبنه أنطوان وزوجته، وأولاد المرحوم حميه وعائلاتهم. وقد ودعناه معهم بكل أسى منذ ثلاثة عشر يوما. إسم أنطوان بخعازي مقرون برجل الإيمان والصلاة وأعمال الخير والعطاء بسخاء فريد. وإسمه خالد في كل من الندوة اللبنانية للحفاظ على البيئة، وجمعية اسبلانت وكان رئيسهما، وفي مجلس أمناء جامعة البلمند وهو عضو فيه، ولجنة إنماء الجميزة التي كان رئيسها الفخري، والجمعية اللبنانية الهولندية للأعمال وتولى رئاستها. وفوق ذلك، يقترن اسمه بالمساعدات المالية السخية لبناء كنائس وقاعاتها، ولتنشيط الجمعيات والمؤسسات الإنسانية ولا بد من أن نذكر دعمه المالي لمشاريع رابطة قنوبين للرسالة والتراث، ومنها المسرح في حديقة البطاركة في الديمان، والمساهمة في الإصدارات الكتابية. نصلي لراحة نفسه ولعزاء أسرته وأحبائه، ويعوض علينا الله بأمثاله.

3. نحتفل معكم بهذه الليتوجيا الإلهية، وهي حضور الله معنا من خلال كلامه الحي الي ينير عقولَنا وضمائرَنا، ومن خلال ذبيحة المسيح الإله المتجسد لفدائنا، ووليمة جسده ودمه لحياتنا. الإفخارستيا هي سر الإيمان الي يسند ضعفنَا، ويساعدنا على الصمود بوجه الصعوبات والمحن. فالدمار الي أحدثه انفجار المرفأ يرتسم أمامَ أعيننا مع كل تداعياته ونتائجه. والقضاء يقلقنا بصمته عن الأسباب والمسببين، وعن نوعية الإنفجار: أعدوانا كان، أم عملا إرهابيا، أم نتيجة إهمال وتغاض. فمن حق المتضررين معرفة كل ذلك، لكي يتمكنوا من التفاوض مع الشركات للحصول على ما يحق لهم من تعويضات. والدولة مطالبة بإعطائهم الجواب. وها نحن أمام انفجارين، بالأمس: واحد في منطقة طريق الجديدة، وآخر في الأشرفية، أوقعا ضحايا وجرحى. نصلي لراحة نفوسهم وعزاء أهلهم، وشفاء الجرحى ونتساءل: ما هذه الظاهرة من الإنفجارات والحرائق الدورية، وما أسبابها الحقيقية؟ وهل يجب على المواطنين أن يعيشوا باستمرار في دوامة الخوف والقلق والإهمال؟

4. ويتعاظم قلقنا إذا تعثر تكليف شخصية لرئاسة الحكومة الجديدة، وبخاصة إذا تعثر تأليف حكومة إنقاذية، غير سياسية، وتكنوقراطية، تتمكن من المباشرة بالإصلاحات في البنى والقطاعات، وفقا لتوصيات مؤتمر CEDRE (نيسان 2018). إن ضمانة نجاح التأليف هي العزم من قبل الجميع على تجنب التسويف، ووضع الشروط، وافتعال العقد غير الدستورية وغير الميثاقية، من أجل قضم الدولة وإبقاء مصير لبنان مرهونا بصراعات المنطقة واستحقاقاتها التي لا تنتهي. وهذه مشكلة وطنية خطيرة عندنا لا حد لها إلا باعتماد نظام الحياد الناشط الذي يعيد للبنان هويته، ومكانته، ودوره الحضاري في سبيل السلام والإستقرار في الداخل وفي المنطقة. في هذا السياق يجب أن يبقى أي تفاهم حول تأليف الحكومة العتيدة ضمن منطوق الدستور والميثاق. فلا يحق لأي فريق أن يتخطى الدستور، ولآخر أن يتنازل عنه، ولآخر أن يشوه النظام الديمقراطي.


5. إن واجب الجماعة السياسية يقتضي الأمانة والحكمة بحسب كلام الرب في إنجيل اليوم.

الأمانة صفة أساسية من صفات الله، تجعله دائما أمينا لذاته. هكذا نحن ينبغي أن نكون أمناء لذواتنا وحالتنا وواجباتنا ومسؤولياتنا. وهي الأمانة للموكل الذي هو الله والشعب. لكي نعيش الأمانة، ينبغي أن نكون أمناء لقرار اليوم الأول، إذ به نتخطى المصاعب والمحن والمعاكسات والإضطهادات والتجني والإساءة. هكذا يتعاطى الله معنا بأمانته.

أما الحكمة فهي أولى مواهب الروح القدس السبع، وتوهب لنا مجانا لكي نحسن التصرف اليومي. إنها تمكننا من أن ننظر إلى أمور الدنيا من منظار الله، وأن نتصرف كما لو كان مكاننا.

6. بهذا المثل الإنجيلي عن العبد الأمين الحكيم، الذي ينصرف إلى القيام بواجبه، فينال بالتالي ثواب الخلاص من سيده إذ يقيمه على جميع ممتلكاته ، وعن العبد الشرير الي يتناسى سيده ويسيء إستعمال مسؤولياته ويفرط بالسلطة الموكولة إليه، فيكون نصيبه الهلاك ، يكلمنا الرب عن الدينونة الشخصية. ففي مساء العمر سندان على واجب الأمانة والحكمة.

الشعب يدين المسؤولين وكل الجماعة السياسية، وقد نبذهم علنا بمظاهرات وحراك وثورة لم تتوقف، بل تمهل، من دون أن تهمل، لا تجنيا على السياسيين والمسؤولين، بل لأنهم هم الذين أوصلوا بلادنا إلى حضيض الجمود والبؤس المالي والاقتصادي والمعيشي، وضربوا المصارف وجعلوا الشعب يتسول أمواله على أبوابها، من دون أن يحصل ولو على قليل يسد به حاجاته الغذائية والطبية والتربوية وسائر استحقاقاته.

إنهم بذلك يسهلون الإنقضاض أكثر فأكثر على الشرعية والدستور والنظام. ما يضعنا أمام عملية إسقاط للدولة المركزية والتغاضي عن نشوء حالات تؤثر سلبا على وحدة لبنان. إننا ندين كل هذه الممارسة السياسية التي تضحي بلبنان ونموه واستقراره وبحبوحته الأصلية على مذبح مصالحهم وخياراتهم الخاطئة. لن تكون عندنا حكومة يثق بها الشعب والأسرة الدولية، إذا لم يتعالَ الجميع عن كل ما هو مكاسب ظرفية، سياسية كانت أم مادية، وعن المحاصصة.

7. ما هو الطعام الي يجب على العبد أن يعطيه في حينه لأهل بيت سيده، سوى حاجات الشعب وحقوقه الأساسية لكي تتأمن له حياة كريمة في وطنه، فلا تعاوده تجربة هجرته؟ تأتينا اليوم عطية سماوية بالنفط والغاز في بحرنا، لذا نحتاج إلى دولة قوية وحكومة قادرة على إجراء مفاوضات ترسيم الحدود بين دولتي لبنان وإسرائيل. أهمية هذه المفاوضات في أن تؤدي إلى اتفاق يعزز سلطة الدولة اللبنانية المركزية، التي من شأنها أن تسيطر على حدودها الدولية المثبتة في خط هدنة سنة 1949 أساسا، وعلى ثروات النفط والغاز، وتسهر على عدم محاصصتها وتوزيعها وتبديدها. بل تكون في عهدة الدولة لتفي ديونها وتطلق عجلة النهوض الإقتصادي والمالي والمعيشي.

8. أمام استفحال وباء كورونا عندنا وازدياد عدد الوفيات والإصابات، مع تراجع إمكانيات مواجهته، نجدد الدعوة إلى الإلتزام بالحجر الصحي وبتوجيهات وزارتي الصحة والداخلية والتقيد بوسائل الوقاية والحماية. وإننا إذ نصلي لراحة نفوس كل ضحايا هذا الوباء، وَلشفاء المصابين عندنا وفي العالم، نأسف لسقوط ضحايا وجرحى آخرين، في حرب العالم بغنى عنها، هي المشتعلة في إقليم ناغورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا وكأنه لا يكفي ما تسبب به وباء كورونا من ضحايا. نأمل ونصلي أن تفلحَ الجهود الدولية في تثبيت وقف إطلاق النار وإيجاد حلول ديبلوماسية وسياسية، رحمة بالمواطنينَ الأبرياء، وصونا للسلام في المنطقة والعالم.

9. إننا نصلي إلى الله من أجل كل مسؤول في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة، كي يدركَ أنه موكل وخادم لتـأمين خير الجماعة الموكولة إليه، ولكي يتحلى بفضيلتي الأمانة والحكمة. فيتمجد الله في كل شخص وفي كل شيء، الآب والإبن والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين".