تاتيانا ستانوفايا

إنقسامات نظام بوتين

12 تشرين الأول 2020

02 : 01

في شهر تموز الماضي، أجرى الكرملين استفتاءً دستورياً. يمكن اعتبار هذا الاستحقاق نهاية دورة سياسية طويلة بدأت في العام 2014 بضم شبه جزيرة القرم وانتهت بنشوء نظام جديد بقيادة بوتين: إنه نظام تتوسع فيه مظاهر القمع والتعصب والأفكار الإيديولوجية والنزعة المحافِظة. يتكل هذا النظام فعلياً على أجندة خارجية، إذ تتأثر جميع العمليات السياسية الداخلية بالظروف الجيوسياسية وترتكز على منطق "القلعة المحاصرة". أصبحت ركائزه المؤسسية راسخة في الدستور المُعدّل الجديد الذي يقوي صلاحيات الرئاسة ويضيف عناصر من الإيديولوجيا الرسمية ويطمس أي مظاهر سابقة لفصل السلطات. لكن تحمل هذه النسخة الدستورية الجديدة أيضاً ميزة لافتة أخرى، فقد أصبح الشرخ المتزايد بين عمليات صنع القرار الحقيقية وبنية الحُكم الرسمية واضحاً للجميع.

لطالما اتّكل نظام بوتين على آليات غامضة لمناقشة القرارات السياسية وإصدارها. حتى بوريس يلتسين كان مطّلعاً على تلك الآليات. يكفي أن نتذكر مدى تأثير "عائلته" سيئة السمعة في ذلك العهد. لكن تحوّلت النزعة الإجمالية في السنوات الأخيرة نحو "استنزاف" السلطات الرسمية سياسياً وحرمانها من الاستقلالية السياسية وتقليص مساحة العمليات المستقلة داخل وظائفها. هذا ما يحصل حين توقف وزارة الشؤون الخارجية التواصل مع الآخرين عن طريق الدبلوماسية وتتولى الدفاع عن الكرملين. هي تستعمل خطاباً لا يختلف كثيراً عن خطاب الحملات الدعائية البغيضة. وهذا ما يحصل عندما تغرق الحكومة في التناقضات عند تنفيذ "المشاريع الوطنية" بدل أن تطبّق سياسة اقتصادية واضحة ومفيدة استراتيجياً، أو عندما تعود السياسة الاجتماعية إلى الواجهة عشية الاستفتاء الدستوري حصراً أو قبل الانتخابات الاتحادية ثم تقتصر على توزيع الأموال النقدية بكل بساطة. وهذا ما يحصل أيضاً حين تتحول الانتخابات إلى إجراء إداري روتيني لا معنى له، فتخلو من المنافسة أو النقاشات حول المستقبل.





تترافق هذه التطورات كلها مع عمليات بارزة في سياسة شؤون الموظفين والتخطيط. أكّد التعديل الحاصل في وقتٍ سابق من هذه السنة على اتخاذ وجهة تتّضح معالمها منذ فترة. بدأ أصحاب الثقل السياسي والمسؤولون المخضرمون والشخصيات رفيعة المستوى يخرجون من هياكل السلطة الرسمية، ويتم استبدالهم دوماً بتكنوقراط شباب وكفوئين. هذه الشخصيات الجديدة تناسب الرئيس لأنها لا تطرح أي أسئلة وتدرك جيداً أن الفرد الذي يظهر بصورة جميلة يعطي انطباعاً إيجابياً أمام قادة البلد، بما يختلف عن المشهد الحقيقي المؤسف. يجب ألا يتفاجأ أحد إذا امتدت هذه النزعة التكنوقراطية خلال الأشهر القليلة المقبلة إلى الهياكل التي كانت "محظورة" سابقاً مثل وزارة الخارجية أو جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.

لقد تراجع هامش المبادرات بسبب تجريد السلطات الرسمية من قوتها. على أرض الواقع، لا يُشجّع القطاع العام إلا على ثلاثة أنواع من النشاطات: الحملات الدعائية (سياسة المعلومات تتّسم بأعلى درجات الإبداع) والمحاسبة (نفقات الميزانية والعائدات وإدارة الصناديق السيادية) و"الأمن"، أي التصدي للتهديدات الخارجية ومحاربة الأعداء الداخليين وتجنب الثورات.

لكن جاء الإصلاح الدستوري ليوقظ التوقعات الخامدة: تُخصَّص مئات المنشورات في قنوات "تلغرام" للتحول المرتقب في مجلس الدولة، فهو سيصبح هيئة تُعنى بنقل السلطة مستقبلاً، وتحوّل مجلس الاتحاد الروسي إلى سلطة عليا تُعنى بوظائف إشرافية جديدة. ويجب ألا ننسى مجلس الأمن الروسي الذي يُعتبر المنصة المفضلة لدى بوتين لمناقشة الأجندة الاستراتيجية الراهنة. لا بد من التعامل مع هذه التطورات كلها بحذر شديد، إذ من المستبعد أن تتحقق التوقعات المنتظرة. من الناحية المؤسسية، لا يعطي الدستور الجديد صلاحيات حقيقية لمجلس الأمن الروسي. بل ستبقى هذه الهيئة الاستشارية الرئاسية على حالهـــــا لكنها حصلـت الآن على تعريف مبهم في الدستور. من المتوقع أن يُطبَّق القانون المرتبط بهذا المجلس قريباً وقد يتحول على الأرجح إلى جزء من "مناورات" هذا الموسم. لكن من المستبعد أن يشمل القانون الجديد أحكاماً قد تُضعِف دور الحكومة أو الرئاسة. تحسّنت مكانة مجلس الأمن الروسي قليلاً في آخر سنتين بفضل صانعي السياسة الداخلية الذين يبحثون عن آليات فاعلة للتأثير على السياسات الرسمية. ونظراً إلى الدور الصُوَري الذي لعبته هذه الهيئة سابقاً، يصعب أن نعتبر جهود "تقويتها" مؤثرة، فهي تؤدي إلى نسخ وظائف "الخبراء" بدل تقوية الأوساط السياسية.





لم تتحقق بعد التوقعات المرتبطة بمجلس الاتحاد الروسي ومن المستبعد أن تتحقق يوماً. بدا خطاب بوتين الأخير أمام أعضاء هذا المجلس روتينياً وفارغ المضمون من الناحية السياسية. وحتى الحصة الرئاسية التي يُفترض أن تُطبَّق قريباً في المجلس ستُرسّخ على الأرجح المكانة غير الرسمية التي تحظى بها الغرفة العليا للبرلمان باعتبارها موقعاً للسياسيين المتقاعدين. وحتى لو اتُخذت قرارات مهمة حول طاقم العمل أو الوظائف المؤسسية قريباً (أصبحت قيد النقاش الآن)، إلا أنها ستؤدي إلى إضعاف الدور السياسي للهياكل الرسمية بدرجة إضافية وتُحسّن موقع بوتين وتُخفّض تكاليف الحُكم. بدأ الإطار الرسمي يتحول تدريجاً إلى منصة مصطنعة حيث يتلاشى دور الجهات الناشطة وتتعارض الأجندة المعتمدة مع الحياة الواقعية.

في الوقت نفسه، لم تعد السياسات الحقيقية وعملية اتخاذ قرارات حكومية مهمة استراتيجياً على رأس الأولويات. يمكن تقسيم الأجندة الراهنة بأكملها إلى قسمَين غير متساويَين ولهما أهمية متفاوتة بنظر بوتين. يشمل القسم الأول إجراءات روتينية أوكلها الرئيس بكل سرور إلى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ورئيس الحكومة والبنك المركزي وحكّام المحافظات، من دون أن يتساءل عن ما يستطيعون فعله لحل المشاكل العالقة. هذه التطورات لا تحصل على مستوى الرئاسة، بل تنشأ اليوم مساحة واسعة وخالية من تأثير بوتين: يعقد مجلس الوزراء الاجتماعات، ويحارب حكّام المحافظات فيروس كورونا، ويسمع البرلمان التقارير ويصادق على قوانين صاغتها جهات مجهولة في أوساطها السرية. الرئيس حاضر دوماً في هذه العمليات لكنه يظهر في واجهة الأحداث، فيلقي الخطابات في معظم الأحيان ويعقد اللقاءات لكن تبدو هذه الأجواء كلها مفتعلة.

تحمل مسائل معينة طابعاً عاماً ومؤثراً، منها الهندسة الوراثية والهندسة الحيوية (إنها الأسلحة "النووية" الجديدة)، أو الفضاء الخارجي، أو التاريخ والمعطيات الجيوسياسية، أو الذكاء الاصطناعي. هذه المجموعة من المسائل ليست بعيدة جداً عن الحياة اليومية للمواطنين الروس العاديين: هي تعزل بوتين وتفصله عن الواقع وتضع الرأي العام في مواجهة مباشرة مع المحاسبين و"الحراس" والمراقبين والمدراء. لا يتعمق بوتين إلا بالمواضيع التي يعتبرها بمستوى مكانته وقد بدأ نطاق هذه المواضيع يتراجع تدريجاً.



فلاديمير بوتين يعقد إجتماعاً مع الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن الروسي (أرشيف)



وراء هذا الإطار الرسمي وفي أعماق السلطة التي يعجز المراقبون الخارجيون عن اختراقها، تتطور حياة مختلفة بالكامل حيث يصبح "رجال الأعمال الجيوسياسيون" بدلاء عن وزارة الدفاع ووزارة الشؤون الخارجية ويُكلَّف رفاق السلاح الأوفياء بمهام دقيقة. يُحفَظ منصب مميز لكل من يجيد إبهار الآخرين بالتطورات النووية والأسلحة الحديثة والأبحاث البيولوجية والقدرة على قراءة الجينوم البشري بكل حرية. للمرة الأولى منذ 20 سنة، يتّضح الدور السياسي الذي تضطلع به "العائلة" الحاكمة بعدما حرص الرئيس على إخفائه لفترة طويلة. يُعتبر الطب النووي وعلم الوراثة والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية محور الاهتمامات الجديدة، وتجذب هذه المجالات الجيل الشاب من الشخصيات المقرّبة من بوتين، وقد بدأت هذه المجموعة تحلّ مكان رفاق الرئيس المتقدمين في السن. ثمة تنافر واضح بين هذين العالمَين: يبرز إطار رسمي صارم وجامد من جهة، وعالم حيوي ومبهر من الإنجازات العالمية من جهة أخرى. يظن بوتين على ما يبدو أنه يستطيع تحمّل كلفة الانغماس في هذه المسائل المتطورة، فهو مقتنع أصلاً بأنه نجح في حل إحدى المشاكل الأساسية في عهده الرئاسي: لقد أنشأ نظاماً مستقراً وجديراً بالثقة لكن لا بد من ضبطه الآن كي يعمل بطريقة آلية. يشمل هذا النظام حزباً قوياً في السلطة، ومعارضة مثمرة، وحواجز كبرى أمام العناصر غير النظامية، وحكومة موالية، ونُخباً مسؤولة. هذه المعطيات تعطي بوتين فرصة التوجه نحو عالم مختلف بالكامل: إنه عالم من التحولات الخارقة والتطورات الكبرى والتقنيات والإنجازات غير المسبوقة.

تتعلق واحدة من أبرز المشاكل في هذا التصميم بتعامله غير المناسب مع التحديات الحقيقية التي تطرحها الحياة اليومية. تتعدد التطورات التي تتزامن مع مساعي بوتين إلى إضعاف القيادة السياسية وتطرح مخاطر كبرى على النظام، منها الاضطرابات الاجتماعية، وانقطاع الحوار بين السلطات والمجتمع، واستبدال سياسة الإقناع بسياسة الإكراه، والتفاوت في التنمية الاقتصادية، وتراجع القدرة على إنشاء قنوات تسمح للنظام بتفريغ طاقته. ونظراً إلى الاضطرابات الراهنة، قد يصبح النظام عاجزاً بكل بساطة عن معالجة التحديات المطروحة على مستوى الحُكم والسياسة. كان منطق التفكير الذي يتوقع تلاشي المشاكل من تلقاء نفسها طاغياً خلال احتجاجات مدينة "خاباروفسك". عملياً، لا يتعلق أكبر تهديد يواجهه بوتين بنشوء معارضة حقيقية، بل بتراجع قدرة النظام على معالجة المشاكل الناشئة بطريقة فاعلة وفي الوقت المناسب. لكن قد تصبح هذه النتيجة حتمية مستقبلاً بسبب الإمعان في إضعاف المؤسسات والسلطات الرسمية.


MISS 3