د.نادر سراج

حين يحتجّ الشارع اللبناني بالعربي المشَبْرح

"كلّن يعني كلّن" في ميزان البلاغة

17 تشرين الأول 2020

02 : 00

مفتتحُ كلامنا تعبيرٌ يوجز طبيعة النتاج القولي الاحتجاجي لشوارع بيروت المنتفضة منذ خريف 2019. شبابها وشاباتها احتجّوا "بالعربي المشَبْرَح"، أو بالقلم العريض. تكلَّموا بحرية، بطلاقة، وبصراحة تامَّة. أفصحوا لمرّةٍ الكلامَ بعيدًا من المواربة والتكتُّم، ومن دون إخفاء شيء، أو مراعاةٍ لعواطف أحد. مفهوم "الشَبرحة" تفَرنَسَ مؤخرًا، ومفاعيلها تجاوزت الجمهورَ العريض إلى السياسيين. فخلال زيارة الرئيس ايمانويل ماكرون لبيروت غرّد نائبٌ على حسابه عبر تويتر: "كل إللي كانوا يعارضونا فجأةً فهموا بالفرنساوي المشَبرح".




أفلحت بلاغة الساحات في ابتداع عنوان احتجاجي عريض ظلَّلَ ولا يزال حَراكها الشعبي. وبحكم بساطته التركيبية، وبلاغته الشعبية، وسهولة التلفظ بكلماته، فشعار "كُلّن يعني كلّن" لا يزال "عبارة مفتاحية موجزة" تُستعاد حتى الآن في لبنان. الشعار المأخوذ نموذجاً للحصيلة الشعاراتية أضحى خيرَ معبّرٍ عن معاناة الجمهور المنتفض. إذ ترجم شعورَه المرير بتدهور الوضع العام الذي آلت إليه البلاد والعباد، جرَّاء تهاون كل القيمين على إدارة مقاليد الحكم من التسعينات وحتى تاريخه (تفجير مرفأ بيروت في 4 آب وتداعياته الكارثية).

المجازاتُ اللغوية تزخِّم خطاب ثورة 17 تشرين الشعبية

الصراحةُ المفرطة المتسمة بشَبرَحةٍ تعبيرية لافتة وغير مألوفة، شكّلت عنواناً عريضاً لخطاب ثورة 17 تشرين الشعبية. والمجازاتُ اللغوية رصّعت خطابها الاحتجاجي، وزخّمت نبضَ لغتها. تراكيبها السلسة، استقرّت في كنفِ اليافطات واللافتات وعلى الألسن. ترجمت مزاجَ منتجيها الشباب وارتقاباتهم. ومن فضائلها أنها ظهَّرت للجمهور المتلقي (متظاهرين، متابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، سياسيين وقادة رأي وإعلاميين عرب وأجانب) طرائقَ تفكيرهم المتجرّأة على اللغة باللغة، والصادقة في ما خصَّ قضايا الشأن العام. فبيَّنت استماتتهم في الدفاع عن حقهم في الحفاظ على المال العام والمؤسسات والمحميات الطبيعية ("هيلا هيلا هيلا هو... مَرْج بِسْري شو حلو")، وفي استخدام الأملاك البحرية ("هيلا هو... الزيتونة إلنا يا حلو")، والتصدي لناهبي الأموال والأملاك العامّة ("شربوا البحر وأكلوا النهر"). كما أكَّدت قدرتها على لفت نظر الجمهور.

سوءُ تعاطي جميع الأفرقاء السياسيين على حدٍّ سواء في إدارة الشأن العام، ومسؤولياتهم المشتركة والمتقاطعة المنافع والمصالح، عمَّا آلت إليه البلاد من تدهور وفساد وإفساد وتسيُّب ودمار وهدر للمال العام، باتت معروفة ومكشوفةً للرأي العام وحديث الساعة. وصحَّت فيها تسمية "مُناهبة" المُستجِدَّة التي ابتدعها الكاتب والأكاديمي أحمد بيضون.

ببلاغتها الشعبية المباشرة والقوية التأثير، بيّنت التغذيةُ الراجعة Feedback لشعار "كلّن" أنها فعلت فِعلَها الدلالي عند المحتجين. حَجْمُ تداولها ورمزيّةُ مضمونها حَتَّما على "الآخر" اعتمادها. فاستعيدت في صيغٍ معدَّلة لفظياً، لتتناسب مع وجهات النظر المخالفة والمعترضة.

وهنا يُسجَّل للحَراك الشعبي اللبناني – الطرف المُنتج والمُرسِل أساسًا – إلزام الخصم السياسي/ الطرف المتلقي باعتماد قواعد "الاشتباك اللفظي"، واستخدام قوالبه عينها، لمقارعة "الآخر"، وإبراز حججه والرد عليها. وبمعنى آخر استمالته وتحفيزه لاستخدام صيغة قولية مختصرة، تعودُ للمُرسِل الأصلي (الشعب الموجود في الشارع والرافع إياها سلاحاً لفظياً). فضيلتُها وسببُ ذيوعها أنها سُبكت بالدارج، لغة الشارع، لا بالفصحى، لغة السلطة ولسان حالها في سياقات المواجهة السياسية والقولية، غير المتكافئة (خطابات، بيانات، مقررات رسمية، تدابير استثنائية، تعليمات).




"كلُّن يعني كلُّن": شَهرُ العيبِ ورفضُه علانيةً

" كُلُّن يعني كُلُّن" شعار تنديدي المنحى، وجملة "سحرية" تجمع بين عفوية التعبير وبساطة السبك ووضوح الدلالة وسهولة التشفير. بعفويته المُثبتة جاء الشعار قويًا مُحكمًا، ولقي قبولًا حسنًا عند الجمهور المحتج. ترسَّخ مبنًى ومعنًى في مدارك رافعيه ورافعاته، وذاع صيته خلال يوميات الثورة. وميزته التفاضلية أنه ينطوي على توجيه أصابع الاتهام الحصري والمباشر لكل مكوِّنات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة بمقدرات البلاد. أبرمَ الجمهورُ حكمَه عليها، فاتهمها علنًا بالفساد والإهمال، واعتبرها "غير قابلة للتدوير".

الشعار/الهتاف ليس جديدًا في أدبيات الاحتجاج الشعبي في لبنان. فقد عرف رواجاً في صفوف جمهور المعترضين والمتظاهرين، خلال الحَراكَين المدنيين السلميين عامي 2015 و2016. خرجَ إلى العلن، كتابةً ومشافهةً، للتعبير عن خيبة أمل المواطنين من تأزم مسألة تراكم جمع النفايات. وجاء ردّ فعلٍ على تلكؤ وتباطؤ كل الجهات الرسمية المعنية، عن القيام بواجباتها لحل هذه الأزمة الخدماتية المستعصية. معناه المباشر والمقصود هو أن الفساد يطالُ حُكماً كل أركان الطبقة الممسكة بمقاليد الحكم، ولا يستثني منها أحدًا.

"كلُّن" وسيطًا مفَضَّلًا للتعبير عن الإدانة

شعارُ "كلّن" المأخوذ مثالًا للحصيلة الشعاراتية التشرينية جاء كاملَ الأوصاف. وهو يدين بشهرته ورواجه إلى كلماته الأقل عددًا (3)، وإلى لفظته المفتاحية القاطعة والإطلاقيّة، والتي لا توحي أو تسمح بأيِّ استثناء. بعد حوالى شهر من اندلاع الثورة نادى الشارع "كلُّن لازم يتحاسبوا". ولتأكيد المؤكَّد أضاف: "كلًّن يعني كلُّن". الشعارُ أصبح إذًا مسكوكةً لغويّة جاهزة للأخذ برمزيتها الإجماعية، والإفادة من سهولة استحضارها وتشفيرها على الألسن. الشعارُ اعتمد بهدف إثبات الحكمِ لشيء ونفيه عمَّا عداه. صُنّاعه أفلحوا في إنتاج شعار تنديدي ذهب مجرى المثل، ودخل في أدبيات العمل السياسي، وأثبتوا في آنٍ فشل السلطة في اصطناع خطاب منطقي مقابلٍ لمُحاجّتهم. الشارعُ المنتفض ردد منظومة شعارات احتجاجية على منوال أهزوجة "هيلا هيلا هو" أو هتاف "كلن يعني كلن". استكملَ مشوارَه، مردِّداً هذين الشعارَين، ومبتكراً المزيدَ بالعودة إلى تراثه القولي: (إللي جرّب المجرِّب صار عقله مخرّب"، و"إللي خَرَّبا ما بعمِّرا"، و"على عينك يا تاجر"). المخزون الثقافي للجماعة شكَّل سنداً ومنهلاً لترصيع كلام الناس بنكهتَي التراث والأصالة، ومحضه صدقية تعبيرية.

البلاغة الشعبية ما تخلّفت عن الرّكب. و"الثوّار" مضوا بثبات نحو تحقيق مطالبهم بعدما أدركوا أنَّ أهل البلد في مركبٍ واحد مشرفٍ على الغرق. فـ "كُلُّن أضحى في الـ Titanic "، كما ردّدوا مجازًا. وعليهم أن يتحمّلوا معاً مسؤوليةَ لبنانهم المهدَّد بالانهيار. باتت الساحة غابة شعاراتٍ تنضحُ بطريف التعليقات وجميل المجازات. استوقفنا تعليقٌ إيلامي مستوحى من شيفرة النقل البحري: "نحن بالـ Titanic، (مرحلة الغرق) وبعدكن بتتخانقوا على الطوائف؟". مجازٌ آخر حضر في المشهد الاحتجاجي. فالمنزعجون من تعامل مراكز القرار غير المتكافئ مع الزعماء، عبَّروا عن استيائهم ورفضهم. فصاغوا شعاراً من وحي موروثهم الثقافي "ما في زعيم بسمنة وزعيم بزيت... كلُّن يعني كلُّن". وهذا وجه من وجوه إحياء بلاغة الناس، وقوامها الجمع ما بين مثل شعبي معروف الدلالة، ومسكوكة لغوية مستحدثة من وحي شعارات الحَراك، باتت مرتكزًا كلاميًاً مفَضَّلاً، وتصدَّرت خطاب الحَراك.




الصيغ الاحتجاجية المبتكرة تنجز أهدافها


في لحظات الصدع الاجتماعي والانقسامات تتخلى اللغة عن حيادها، ويتصدّر التعبير البلاغي المبتكر كوسيلة احتجاج جماهيري مشرعة ومشروعة وناصعة الفصاحة. البلاغة التي ابتدعها أهل الساحات أنجزت إلى حدّ ما أهدافها. فترجمت التطلعات، واستقطبت المواطن المقهور المعتكف "إللي واقف عَ البلكون". عزَّزت مرتكزات خطاب الثورة بالجديد والمُبتكَر. فرفدت الصيغُ البلاغيةُ المُبتدَعةُ النصوصَ الاحتجاجيةَ والمطلبية بجرأة قولية وقيمٍ شبابية مضافة. أكَّدت تفرُّدَها، وأبرزت في آنٍ قيمتها الفنية ومغزاها الدلالي. آخرُ الشواهد ورد على لسان إعلامي يعلّق على اجتماع ممثلي الكتل النيابية في قصر الصنوبر مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ويؤكّد فحوى مقالنا برسوخ شعار "كلّن"، دالاً ومدلولًا، في لغة المجال العام: "قعدوا متل الشاطرين على الطاولة، كلّن يعني كلّن".

خطابُ الغضب والاعتراض المشوب بانتقادٍ ساخر أثبتَ تواشجَ السياسي باللغوي وبالثقافي الاجتماعي. والومضات الجمالية البلاغية أظهرت إجادة المتلقين صوغ وتلقي تعليقات ساخرة وتوجيه رسائل ساخنة إلى من يهمهم الأمر. أغاني الغضب انتقدت واقعهم الاجتماعي وواكبت الزمان الاستثنائي الذي عاشوه لا بل أحيوه. أما البذاءاتُ الكلامية التي حفلت بها بعض هتافاتهم المُغنَّاة، فجاءت تنفيساً عن غضبٍ مكبوت (فشّة خُلْق)، وصرخةً في وجه تعنُّت السلطة، كما شكّلت مدخلاً للمقاومة السياسية، بوجوهها اللفظية، كما استخلص باحث بلاغي عربي (عماد عبد اللطيف).

مسكُ الكلام أن الشعارَ ليس أداةَ تغييرٍ عمادها كلامٌ حاد الحواف فحسب؛ بل هو فعلٌ لعنفيٌ بالغ التأثير في مدارك مطلقيه ومردديه. وهو واحدٌ من أفتك أسلحة المواجهة التي يشهرها الشارعُ في وجه الظالم والفاسد.

*نادر سراج أكاديمي وباحث وكاتب أصدر خلال السنوات الستّ الأخيرة (2012-2020) ثلاثة كتب تناولت تحليل الخطابات الاحتجاجية في مصر ولبنان.