عيسى مخلوف

فجر يوم جديد!

17 تشرين الأول 2020

02 : 00

في السابع عشر من تشرين، نزل مئات ألوف الشابات والشبان إلى الساحات والشوارع وعرُّوا الصنم الذي حكم بالابتزاز والحيلة والتزوير، ووقفوا ضدّ نظام الفساد والمحاصصة الطائفيّة الذي دفع البلد إلى الانهيار. لقد نادوا بدولة القانون والعدالة والمؤسسات للتخلّص من سلطة لا تنفكّ تفترس أبناءها وتنهب أموالهم، كما نهبت مقدرات الدولة وفكّكت أسسها.

تاريخ السابع عشر من تشرين مسارٌ ووُجهة ووعد، وبداية لحظة فاصلة في تاريخ لبنان، حين أطلقت الحناجر صرختها المدوّية: "كلّن يعني كلّن". صرخة تجاوزت النهج الطائفي الضيّق والمحدود والذي لا يؤدّي إلاّ إلى مزيد من الانقسام والحروب الأهليّة. النهج الذي كان مصدر ثراء الطبقة الحاكمة ومبرّر وجودها بعد أن جعلت من لبنان سجناً كبيراً، ومن اللبنانيين رهائن المحاصصات والمصارف والأمن والكهرباء والماء والقهر اليومي.

انتهت الحرب الأهليّة وبقي أمراؤها في السلطة. بعض هؤلاء شاركوا في القتال. ظلّوا يحكمون ويستعملون كلّ الوسائل الممكنة للاستئثار بالحكم: يشترون الأصوات ويتاجرون بالغرائز ولا يتردّدون في استعمال العنف، ويبيعون أنفسهم - وإذا استطاعوا بلدهم بأكمله – لقوى خارجيّة تساندهم وتعطيهم القــــوّة اللازمة للبقاء.

منذ ثلاثة عقود حتى اليوم، كم صاحب قلم قُتل في لبنان، وكم صاحب رأي حرّ وفكر متنوّر، قُتلوا لأنهم فكّروا وانتقدوا وحاسبوا. ومن يستطيع أن يقول من قتل كلّ هؤلاء الذين لم تستطع دولتهم أن تحميهم، وكيف لها أن تحميهم والقتلة هم الممسكون بزمامها والقانون؟ وهم الذين جعلوا قوامها السمسرة والنهب وإذلال المواطن اللبناني في أبسط حقوقه في العيش، وفي عدالته وطموحه وآماله، وفي دفعه نحو اليأس التامّ وتشجيعه على الهجرة فحسب. كانت مهمّة المجرم الطليق تدمير لبنان وعزله عن العالم وتقزيم حجمه المعنوي وقدراته.

بتصفية أصحاب الرأي الحرّ، انقضّوا أيضاً على هامش الحرية الذي تميّزت به مدينة بيروت ضمن محيطها ونزعوا عنها صفة الملاذ والملجأ، بعد أن كانت تستقبل المطرودين والهاربين من بلدان الجوار، مفكّرين وأدباء وفنّانين، ليقولوا كلمتهم فيها ويساهموا في صناعة المشهد الثقافي ويصبحوا جزءاً منه. لا مكان للثقافة والإبداع إذا كان صُنَّاعها مقيّدين بالسلاسل، محرومين من الحرية ومهدّدين بحياتهم كلّ لحظة. وحملة السلاح هم ضدّ الحرية وضدّ المعرفة، بل إنّ المناداة بالحرية والمعرفة هي ممّا يثير غضبهم لأنه يؤثّر على تماسك القطيع ويشكّل خطراً على الطاعة العمياء وعلى سيادتهم المطلقة.

الذين قُتلوا في لبنان لم يكونوا من حملة السلاح ولم يُعرف عنهم أنهم قتلوا أحداً، ولم يكونوا جبناء، ولم ينهبوا أو يُفسدوا أو يدمّروا أو يُذلّوا أحداً. لقد تمّت تصفيتهم الواحد بعد الآخر بصورة منظّمة، ومن خلال قتلهم أراد القتلة إنهاء صورة بيروت الطامحة المتعدّدة الحرّة، المفتوحة على العصر والعلم والجامعات، وعلى المعرفة والثقافة والإبداع. أرادوا القضاء عليها بصفتها مدينة عصرية منفتحة على الشرق والغرب، تصغي إلى تجارب العالم الجديدة وتتداول أسئلة الحداثة. لكنّ الآتي من ظلامية الفكر الواحد المُطلَق لا تعنيه هذه المسائل، بل يعتبرها تهديداً لوجوده، ووجوده مناقض لبقاء لبنان.

مع تقديس الرأي الواحد، تفقد بيروت دورها وحياتها، بل يصبح انفجار الرابع من آب حلقة من سلسلة انفجارات تهدّد يومياً النفس والجسد على السواء، وتجعل الناس مشاريع قتلى يسمونهم لاحقاً شهداء. هناك في قلب المدينة من يكره المدينة لأنها مختلفة ويصعب تدجينها، لذلك فهو يسعى إلى تدميرها لأنها لا تشبهه وخشية أن تصبح مثلاً يُحتذى.

صحيح أنّ الطائفية في حالة اهتراء وطلعت رائحتها، لكن هناك من لا يزال متمسّكاً بها، بدءاً من قُوّادها الأتباع المستقوين بتحالفاتهم مع الخارج ضدّ جزء كبير من شعبهم، إلى أتباع الأتباع الذين، على الرغم من الوضع القائم والهيكل الذي ينهار فوق رؤوس الجميع، ما زالوا مستعدّين للدفاع عن "الزعيم" وحمله على الأكتاف مردّدين: "بالروح بالدم"، غافلين عن سياسته الرديئة وفساده وطمعه واستعداده لوضع سيارة مفخّخة من أجل بقائه دقائق إضافيّة في السلطة. وهو، إن لم يقتل بيديه الملوّثتين أصلاً بالدم، يغطّي الجرائم بصمته وبالتواطؤ مع من يَقتُل.

بعد انفجار الرابع من آب، وما وصلت إليه البلاد من انهيارات متلاحقة على جميع المستويات، ظلّت الطبقة السياسيّة منفصلة عن الواقع وتحكم باستخفاف قلّ مثيله، وبطريقتها المافيوية نفسها القائمة على الدسائس والتلاعب والكذب.

التغيير الذي دعت إليه انتفاضة السابع عشر من تشرين الأول الماضي كان ينبغي أن يحدث مباشرة بعد الحرب الأهلية، تحصيناً للسلم الأهلي، وهذا ما لم يحدث. مَن في السلطة لا يريدونه أن يحدث. لذلك تحتاج الانتفاضة، بعد عام على انطلاقها، إلى إعادة نظر كاملة تكون بمثابة نفخ النار في الجمر الذي تحت الرماد. فبالإضافة إلى وباء كورونا، استطاعت السلطة، بخبثها ومناوراتها وتهديداتها واتكائها على البعد الطائفي المتجذّر في المجتمع اللبناني، أن تلجم الصوت الصارخ، لكنها لم ولن تتمكّن من وأده. إنها بداية المسيرة الديموقراطيّة، وإن شهدت تراجعاً فلا حلّ من دون استكمالها. ويعرف من فيها أنّ العدوّ شرس ومتوحّش ومجرّد من أيّ قيمة. من هنا فالحاجة كبيرة إلى التخطيط وتنظيم الصفوف وبَلْوَرة المواقف والتطلّعات للتمكّن من الوقوف في وجه نظام سياسي طائفي يسعى إلى الحفاظ على مصالحه بشتّى الوسائل بما فيها جرّ البلد الى حرب أهلية.

هل يكون السابع عشر من تشرين فجر يوم جديد؟ هل نخون هذا الوعد أم نتابع المسيرة ونجعل نار الأمل أقوى من محاولات خنقها، ونترك أخيراً وراءنا كلّ الصفحات السوداء من تاريخ نعرف أنّ بالإمكان أن يكون أكثر عدلاً وأكثر جمالاً وأكثر إنسانيّة؟