أيلا جان ياكل

كيف عسكرت تركيا سياستها الخارجية؟

20 تشرين الأول 2020

المصدر: Amazon Polly

02 : 01

لطالما وجّه مبدأ "لا للمشاكل مع الدول المجاورة" مسار السياسة الخارجية التركية، لكن لم يبقَ منه الكثير اليوم. كان اتكال تركيا المتزايد على القوة العسكرية لتحقيق أهدافها كفيلاً بجرّها إلى صراعات في محيطها حيث تتحدى الخصوم والحلفاء التقليديين على حد سواء. وصلت أصداء هذه المقاربة حديثاً إلى القوقاز، حين استعمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ثقل بلده لدعم حليفته المقرّبة أذربيجان بعد احتدام مواجهتها العدائية مع أرمينيا، فقدّم لها الأسلحة والتدريب العسكري ورفض الانضمام إلى الحملات الدولية التي تدعو إلى وقف إطلاق النار. يعكس هذا الموقف المتشدد مدى جهوزية أنقرة لاستعراض قوتها العسكرية لتحقيق الأهداف التي عجزت عن بلوغها من خلال الدبلوماسية. محلياً، جدّد ذلك الموقف دعم الرأي العام للرئيس التركي بعدما شكّك الناس لوقتٍ طويل بتدخّل جهات خارجية في شؤون بلدهم، وهم يتوقون الآن إلى فرض النفوذ الذي استحقت تركيا اكتسابه بفضل بصمتها العسكرية والتاريخية المؤثرة.

أعلن أردوغان خلال اجتماع لمجلس الوزراء في بداية شهر تشرين الأول: "اكتسبت تركيا القوة اللازمة لتطبيق سياساتها الاقتصادية ومقارباتها السياسية ميدانياً استناداً إلى دعم عسكري ناشط. كل من اعتاد على مخاطبتنا بأسلوب فوقي بات يتفاوض معنا اليوم على قدم المساواة... لقد نجحنا في إضعاف سياساتهم التي كانت تهدف إلى فرض قراراتهم أحادية الجانب علينا في جميع المسائل الإقليمية والعالمية".

حتى الآن، تبيّن أن تهديدات الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا بسبب تدخلها المؤثر في ليبيا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط هي مجرّد كلام فارغ.

خلال السنة الماضية وحدها، أثارت تركيا استياء الدول المجاورة لها وتحدّت روسيا وأوروبا والولايات المتحدة في مناسبات كثيرة لإطلاق عمليتَين عسكريتَين في سوريا، ونشر فوج المغاوير في العراق، وتغيير مسار الحرب في ليبيا، وإرسال سفن حربية للبحث عن الهيدروكربونات في المياه التي تطالب بها اليونان وقبرص.

وفي الفترة الأخيرة، اتّهمت أرمينيا تركيا (لا علاقات دبلوماسية بين البلدين) بالتدخل في الصراع المتجدد على "ناغورنو كاراباخ" في أواخر الشهر الماضي، علماً أن الأرمن يسيطرون على هذه المنطقة منذ التسعينات لكن يعتبرها المجتمع الدولي جزءاً من أذربيجان.





تنكر تركيا ما وَرَد في التقارير التي تفيد بأنها أرسلت مرتزقة سوريين وطائرات مقاتلة إلى أذربيجان. لكنها رفضت دعوة "مجموعة مينسك" (هيئة تحكيم تنتمي إليها تركيا) إلى وقف إطلاق النار قبل أن يصبح الإقليم تحت سيطرة أذربيجان مجدداً. لكنّ هذه المقاربة لم تَزِد شعبية تركيا بل ترافقت مع نتائج عكسية حتى الآن.

يقول آلان ماكوفسكي، مسؤول بارز في "مركز التقدم الأميركي" عمل سابقاً في وزارة الخارجية الأميركية: "هذا الموقف يعكس في معظمه أداة دبلوماسية مختلفة تهدف إلى زيادة نفوذ تركيا كي تتمكن من تحقيق مكاسب اقتصادية ودبلوماسية أو حتى كسب الأراضي أحياناً. تشعر معظم الدول الإقليمية والغربية بالاستياء من عدائية تركيا، لكنّ هذه المقاربة تفيد الأتراك حتى الآن".

كان نفوذ تركيا كفيلاً بتغيير مسار الحرب الأهلية في ليبيا، حيث أدى دعمها العسكري للحكومة التي تعترف بها الأمم المتحدة إلى انقلاب الوضع ضد قائد المتمردين المدعوم من فرنسا وروسيا والإمارات العربية المتحدة. كذلك، نجحت تركيا في عقد صفقات مع طرابلس في مجال الطاقة، ما قد يزيد تعقيد الجهود التي تبذلها دول أخرى في منطقة البحر الأبيض المتوسط لاستغلال ثروة الغاز الطبيعي المحتملة في قاع البحر.

حتى الآن، بقيت تهديدات الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على تركيا بسبب تحركها في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط فارغة المضمون. نجحت أنقرة أيضاً في تجنب العقوبات التي لوّحت بها الولايات المتحدة بعد إقدامها على شراء نظام صاروخي روسي مُصمّم لإسقاط طائرات حلف الناتو.

طوال عقود، كانت تركيا أقرب إلى الغرب ولطالما التزمت بشعار مؤسس الجمهورية المعاصرة مصطفى كمال أتاتورك "السلام في الداخل يعني السلام في العالم". بدأ أردوغان خلال النصف الأول من عهده القائم منذ 17 سنة ببناء العلاقات التجارية والدبلوماسية في أنحاء المنطقة رافعاً شعار "لا للمشاكل مع الدول المجاورة". لكن برأي أستاذة العلاقات الدولية في جامعة "سابانجي" في اسطنبول، سينيم أيدين دوزغيت، مهّد انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وغياب أي جبهة موحدة في الاتحاد الأوروبي لنشوء فراغ تستطيع تركيا استغلاله لترسيخ مكانتها بقوة.

لم تكن تركيا الدولة الوحيدة التي حاولت ملء ذلك الفراغ. أدى هذا الوضع إلى تراجع الثقة التركية بمصر وحلفائها، لا سيما بعدما عمد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى إسقاط محمد مرسي الذي كان يحمل عقلية مشابهة لأردوغان في العام 2013، فيما سعت المملكة العربية السعودية للتحوّل إلى قوة وازنة في المنطقة غداة الربيع العربي. تراجعت الثقة التركية بروسيا أيضاً كونها تدعم الأطراف التي تعارضها أنقرة في سوريا وليبيا.

بسبب توتر العلاقات مع مصر وقبرص وإسرائيل، بقيت تركيا خارج جهود عقد الصفقات حين أنشأت هذه البلدان مع دول ساحلية أخرى على البحر الأبيض المتوسط مناطق اقتصادية خالصة لاستكشاف حقول الغاز تحت البحر.

في هذا العالم الجديد، أدى تفضيل تركيا لاستعمال القوة بدل التسوية إلى تقليص الخيارات المتاحة أمامها. توضح أيدين دوزغيت: "وفق منطق التفكير هذا، تُحقق الوسائل العسكرية نتائج أكثر وضوحاً. لكنها تُستعمل أيضاً من باب الضرورة. بسبب الأخطاء السياسية الماضية، بما في ذلك عدم فتح القنوات الدبلوماسية اللازمة، بقيت تركيا وحدها ولم تعد تملك خيارات كثيرة باستثناء الأدوات العسكرية التي كانت في متناولها".

في غضون ذلك، تأججت المخاوف من تأثير الخطوات الكردية للاستقلال عن سوريا والعراق على الأكراد في تركيا. ثم انعدمت ثقة أردوغان بالقوى الغربية بسبب امتناعها عن إدانة الانقلاب العسكري الفاشل ضده في العام 2016 بقوة كافية، وزاد اقتناعه بأن الاضطرابات المتفجرة في محيط تركيا تشكّل مؤامرة ضد بلده.

قال أردوغان في أحد خطاباته: "تركيا هي الجهة التي يستهدفها الحصار من القوقاز إلى البلقان، ومن البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط والمناطق المجاورة. طالما تحافظ تركيا على قوتها، لن ينجح أيٌّ من هذه السيناريوات".

في وجه هذا الهجوم المزعوم، كان تعهد أردوغان بتحقيق مصالح تركيا باعتبارها قوة مسلمة بارزة كفيلاً بتأجيج المشاعر القومية وسط الرأي العام الذي يعتبر بلده الزعيم الطبيعي للعالم الإسلامي.

يوضح ماكوفسكي: "كانت مساعي أردوغان لتجديد الأمجاد التركية عبر استعمال الدين كوسيلة لتحقيق هدفه تتماشى مع ثقة تركيا المتزايدة بقدراتها العسكرية، فزادت حماسة مناصريه وكسب الرئيس التركي أيضاً تأييد عدد من منتقديه داخلياً. لكن قد تجازف تركيا بتوسيع عملياتها العسكرية بدرجة مفرطة والتورط في أعمال عدائية غير مرغوب فيها. أو ربما يصبح الاقتصاد التركي المتدهور عاملاً رادعاً في هذا المجال. ونظراً إلى تراجع شعبية تركيا في المنطقة، قد تحاول الدول الأخرى التي تسعى أصلاً إلى عزل أنقرة دبلوماسياً إحداث أضرار اقتصادية إضافية".

تنتشر القوات العسكرية التركية اليوم في تسعة بلدان على الأقل، من العراق إلى الصومال وفي منطقة شمال قبرص غير المعترف بها دولياً، كما أنها تنشط في قاعدة كبيرة في قطر. كذلك، تسيطر تركيا على مساحات واسعة من الأراضي في شمال سوريا غداة سلسلة من التوغلات العابرة للحدود. يتزامن هذا التركيز المتجدد على الجيش والوكالات الاستخبارية بدل الجهود الدبلوماسية مع توسّع القوات المسلحة التركية التي تُعتبر أصلاً ثاني أكبر جيش في حلف الناتو. كذلك، ضاعفت الحكومة التركية حجم الإنفاق العسكري خلال العقد الماضي، وهي تنوي تصنيع جميع أسلحتها بنفسها بحلول العام 2023.





قام أردوغان بهذه الاستثمارات كلها رغم الاضطرابات الاقتصادية التي يشهدها البلد راهناً من باب الضرورة لأنه يريد أن يسترجع العظمة التي كانت تتمتع بها السلطنة العثمانية في منطقة البحر الأبيض المتوسط وفي أنحاء الشرق الأوسط قبل انهيارها غداة الحرب العالمية الأولى. على الساحة الداخلية، يدعم عدد كبير من منتقدي أردوغان التدخل التركي في سوريا وقد انضم هؤلاء إلى المعسكر المؤيد لأذربيجان. وتكشف استطلاعات الرأي أن الأتراك منقسمون حول موضوع إرسال الجنود إلى الخارج: هم يدعمون هذه الخطوة في المناطق القريبة منهم في سوريا، لكنهم يعارضونها في أماكن بعيدة مثل ليبيا.

انعكس الركود الاقتصادي سلباً على نِسَب تأييد حزب أردوغان، ومع ذلك يصرّ الرئيس التركي على اعتبار المشاكل الاقتصادية كلفة حتمية يجب أن تتحمّلها تركيا فيما تحارب هذه الصراعات كلها وحدها، معتبراً أن الاقتصاد التركي يتعرض لحرب من نوع آخر يشنّها ضده خصوم البلد.

أعلن أردوغان: "نحن ندفع الثمن طبعاً... ونشعر بالقلق على كل مواطن تأثّر بالانتكاسات الاقتصادية الحاصلة. لكننا سنحصد قريباً ثمار المصاعب التي نتحملها الآن بإذن الله".


MISS 3