ماكس بيرغمان

واشنطن بحاجة لدعم تعزيز سياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية

24 تشرين الأول 2020

المصدر: War On The Rocks

02 : 01

تحتاج الولايات المتحدة إلى نسخة أقوى من أوروبا. في ظل تنامي النفوذ الصيني وعودة روسيا إلى الساحة وتشويه صورة "القوة الأميركية الناعمة" بسبب سوء تعامل البلد مع فيروس "كوفيد - 19"، يجب أن تعيد الولايات المتحدة إحياء التحالف العابر للأطلسي. لكن لم تعد العودة إلى ما قبل عهد الرئيس دونالد ترامب، حين كانت واشنطن تلعب دور القيادة ويُفترض أن تحذو العواصم الأوروبية حذوها، خطوة كافية اليوم. بغض النظر عن هوية الفائز بالرئاسة الأميركية، تحتاج الولايات المتحدة إلى أوروبا كشريكة حقيقية لها، بمعنى أن تفرض نفسها على الساحة العالمية، حتى لو فعلت ذلك وحدها عند الحاجة. لتحقيق هذا الهدف، يجب أن تغيّر واشنطن مقاربتها التقليدية تجاه التحالف العابر للأطلسي.

يتعارض عجز الاتحاد الأوروبي عن اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة بشأن بيلاروسيا، الدولة المجاورة المعروفة على نطاق واسع بأنها "آخر نظام دكتاتوري في أوروبا"، مع طموحاته بتبنّي مقاربة جيوسياسية مكثفة ورغبته في توسيع "استقلاليته الاستراتيجية". لا يمكن أن يصبح الاتحاد الأوروبي جيوسياسياً ما لم يتحرك بسرعة. وفي ظل انتشار الاضطرابات في محيطه ونظراً إلى تصرفات روسيا الانتقامية وطموحات الصين العدائية وتوتر العلاقات العابرة للأطلسي خلال عهد ترامب، أصبح الاتحاد الأوروبي بأمسّ الحاجة إلى سياسة خارجية قوية ومتماسكة تستطيع الدفاع عن مصالحه وتحقيقها.

استغلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خطاب "حالة الاتحاد" الذي ألقته حديثاً لطرح سؤال محوري: "لماذا تتأخر أبسط البيانات حول قيم الاتحاد الأوروبي أو تصبح رهينة دوافع أخرى"؟ رداً على هذا السؤال، دعت فون دير لاين إلى اعتماد مبدأ "تصويت الأغلبية المؤهِّلة" لاتخاذ القرارات المحورية حول السياسة الخارجية والأمنية، على غرار العقوبات وحقوق الإنسان. كان سلفها جان كلود جانكر قد أصدر دعوات مشابهة لكن بلا جدوى. على عكس الوضع اليوم، حيث تتطلب القرارات المرتبطة بالسياسة الخارجية والأمنية في المجلس الأوروبي إجماعاً بين 27 دولة عضو، يعني اللجوء إلى تصويت الأغلبية المؤهلة المصادقة على القرارات المرتبطة بالسياسة الخارجية حين تحصد 55% من أصوات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، طالما تُمثّل تلك الأصوات 65% من السكان على الأقل. تُستعمَل آلية التصويت هذه في مجموعة من المجالات السياسية الأخرى داخل الاتحاد، بما في ذلك التجارة، ويمكن تطبيقها بموجب معاهدة لشبونة.

لن يكون إصلاح إجراءات التصويت الحل النهائي للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، لكنه يسرّع خطوات بروكسل. كذلك، قد يسهم هذا التعديل في توضيح رؤية الاتحاد وزيادة نفوذه، ما يسمح له بأداء دور قيادي، بدل تنفيذ قرارات الآخرين، من خلال استعمال النفوذ الذي يملكه باعتباره أكبر سوق في العالم. يُمهّد تصويت الأغلبية المؤهلة للتخلص من العقبات البيروقراطية التي تعيق العمل داخل الاتحاد الأوروبي، وقد يعطي الدول الأصغر حجماً القوة اللازمة لحشد التحالفات وطرح الاقتراحات بدل الاكتفاء بانتظار الإجماع الفرنسي الألماني، ما يؤدي إلى نشر ثقافة استراتيجية أكثر شيوعاً في أوروبا. قد يفتح هذا الوضع المجال أمام تغيير هندسة السياسة الخارجية، حيث يزيد نفوذ بروكسل وتكسب الدول الصغيرة صوتاً مؤثراً، فيما يشهد نفوذ باريس وبرلين تراجعاً نسبياً. في مطلق الأحوال، تدرك ألمانيا وفرنسا المسائل التي أصبحت على المحك وقد عبّرتا عن رغبتهما في متابعة هذا النقاش.





تعطي الخطوة الجريئة التي اتخذها الاتحاد الأوروبي هذا الصيف ضمن حزمة التعافي بعض الأمل بأن تنفّذ بروكسل بدورها إصلاحات جذرية في سياستها الخارجية. لكن حتى لو لم تتحقق هذه الإصلاحات، كانت الحاجة إلى إطلاق رد أوروبي قوي كفيلة بدفع بعض أعضاء الاتحاد إلى التحرك من دون محاولة كسب الإجماع. في الحالات التي يبقى فيها عمل الاتحاد الأوروبي عقيماً لأسباب بيروقراطية، بدأت تتشكّل منذ الآن تحالفات خاصة وأصغر حجماً بين الدول الأعضاء بقيادة فرنسا وألمانيا، وهي تشمل ممثّلين رفيعي المستوى عن الاتحاد الأوروبي. من المتوقع أن تصبح التحالفات المرنة لكن الحصرية أكثر شيوعاً إذا بقيت السياسة الخارجية في الاتحاد غير مجدية، منها المجموعة الثلاثية المؤلفة من لندن وبرلين وباريس. تُعتبر هذه الخطوات الاستباقية مفيدة لكنها تبقى أضعف من المواقف الموحّدة للاتحاد الأوروبي.

تتعلق مشكلة مستعصية في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بصعوبة إنشاء ثقافة استراتيجية مشتركة ورؤية موحّدة بين 27 دولة عضو تحمل كل واحدة منها مشهداً جغرافياً وتاريخياً مختلفاً. لكن تكون هذه الرؤية المشتركة أساسية لتنفيذ أي سياسة خارجية، فهي تسمح للدولة بتحديد مصالحها وأولوياتها. باختصار، يجب أن يكتشف الاتحاد الأوروبي أفضل طريقة لتحديد "مصلحته الوطنية". بدأت عناصر محددة من رؤية مشتركة محتملة تظهر بين الحكومات الأوروبية بدرجة معيّنة، إذ يُحرّك مفهوم "الاستقلالية" أو "السيادة الاستراتيجية" الأوروبية مؤسسات بروكسل ووزارات الدول الأعضاء وجوهر السياسة الخارجية الأوروبية بشكلٍ متزايد اليوم. كذلك، تُعتبر المبادرات التي تشبه "الاستراتيجية العالمية الأوروبية" في العام 2016 و"البوصلة الاستراتيجية" الجديدة، جهوداً قيّمة لتحديد المصالح الأوروبية الجماعية في العالم. لكن يجب أن تضع الدول الأعضاء خلافاتها جانباً في نهاية المطاف وتتوحّد كي تعترف بالمسائل التي أصبحت على المحك، أي دور أوروبا في عالمٍ يشهد اضطرابات جيوسياسية كبرى. لم يعد التخبط خياراً مقبولاً. في الحد الأدنى، يُفترض أن يدفع وضع بروكسل بالقادة الأوروبيين إلى الاستغناء عن العقائد والمحظورات القديمة والتفكير بحلول جديدة ومبتكرة وتقبّل عدم استعداد واشنطن لمساعدة أوروبا طوال الوقت.

يجب أن ترفع الولايات المتحدة الصوت في هذا المجال تحديداً. يُفترض أن ترغب واشنطن في زيادة قوة الاتحاد الأوروبي وترسيخ مكانته كلاعب أساسي على الساحة العالمية، لأنها باتت بأمسّ الحاجة إلى شركاء أقوياء وبارعين، فيما يزيد تركيزها الاستراتيجي على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ مع مرور الوقت. نادراً ما يُجمِع الحزبان الجمهوري والديمقراطي على دعوة أوروبا إلى تقوية موقفها. لكن سترغب إدارة ترامب خلال ولايتها الثانية المحتملة أو إدارة بايدن الجديدة في أن تتحمّل أوروبا جزءاً أكبر من الأعباء، ما يعني أن تتمكن من حماية نفسها من التهديدات الأمنية في محيطها.





تسود مخاوف حتمية في واشنطن مفادها أن التركيز على الاتحاد الأوروبي قد يُضعف الاهتمام بحلف الناتو. لكن أصبحت المقاربة الأميركية التي تعطي الأولوية لهذا الحلف بالية. لا يزال الناتو حجر أساس للأمن العابر للأطلسي، لكنه أقل تناسباً من الاتحاد الأوروبي لمعالجة مجموعة متنوعة من التحديات الاقتصادية والتكنولوجية والدبلوماسية التي تواجهها الولايات المتحدة وأوروبا في آن. في ما يخص الصين، يؤدي حلف الناتو دوراً معيناً في معالجة بعض المسائل، لكنّ الاتحاد الأوروبي هو الذي يملك المعدات المناسبة للتعامل مع معظم المسائل الأخرى، لا سيما تلك المرتبطة بالتكنولوجيا والممارسات الاقتصادية. كذلك، يبدو المفهوم القائل إن تقوية الاتحاد الأوروبي ستحصل على حساب حلف الناتو خاطئة بكل بساطة، لأن المنظمتَين تشملان الدول الأعضاء نفسها تقريباً وهما تتعاونان عن قرب اليوم. أما الخوف الحقيقي من أن يقف الاتحاد الأوروبي في وجه الولايات المتحدة بقوة تفوق ما كان عليه في الماضي (في فترة غزو العراق مثلاً أو الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي الإيراني)، فلا بد من مقارنته بنتائج اكتساب أوروبا القدرة على التصدي للنفوذ الروسي والصيني بقوة كافية.

رغم قلة شعبية ترامب، لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ دبلوماسي مؤثر داخل أوروبا ويجب أن تستفيد منه لتشجيع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على تسريع تحركاتها واتخاذ خطوات جريئة في المسائل المرتبطة بالسياسة الخارجية. بعدما وصف ترامب الاتحاد الأوروبي بـ"العدو"، من المنطقي أن يُحدِث هذا النوع من الالتزام الأميركي ضجة كبيرة بين المسؤولين الأوروبيين. لكن يجب أن توضح واشنطن نيّتها بناء شراكة استراتيجية جديدة مع الاتحاد الأوروبي إذا كان يستطيع توحيد صوته. يُفترض أن تتواصل أي إدارة أميركية جديدة مع العواصم الأوروبية، من وارسو إلى باريس، ومن ستوكهولم إلى مدريد، ومن برلين إلى براتيسلافا، وتدعو إلى طرح أفكار منطقية لإصلاح السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، على غرار تصويت الأغلبية المؤهلة. كذلك، يجب أن تُحدد واشنطن البلدان المقاوِمة لها، وهي تقع على الأرجح في دول أوروبا الوسطى والشرقية، وتستعمل أي شكل من النوايا الحسنة المتبقية لطمأنة تلك الدول إلى أنّ السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تستطيع أن تضمن الأمن العابر للأطلسي.

أخيراً، لن يكون اللطف المتبادل بين الولايات المتحدة وأوروبا أو استرجاع المواقف المبتذلة القديمة كافياً لإعادة إحياء العلاقة العابرة للأطلسي، بل يجب أن يبذل الطرفان قصارى جهدهما لإعداد مقاربات مشتركة للمسائل الصعبة. لكن من دون وضع آلية فاعلة لاتخاذ قرارات السياسة الخارجية وإجراء نقاش استراتيجي عميق، قد تفشل مساعي أوروبا للتحول إلى شريكة قوية للولايات المتحدة ثم يُمهّد هذا الوضع مجدداً لتوتر العلاقات العابرة للأطلسي. يجب أن تتحرك واشنطن لمنع حصول ذلك عبر دعم إصلاح السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بطريقة ناشطة.