جونسون وسياسة "التبعية الجديدة"

11 : 30

بذل رئيس الوزراء البريطاني الجديد بوريس جونسون، ذلك الرجل الأشعث والمتباهي والغريب في معظم الأوقات، قصارى جهده كي يتشبّه بونستون تشرشل. يُخرِج جونسون في خطاباته "تشرشل الكامن في داخله"، فيعبّر عن حنينه إلى ماضي بريطانيا المجيد. حتى أنه مقتنع بإطلاق صراع بطولي ضد "الدولة الأوروبية العظمى"، كما فعل تشرشل حين كان رئيس الوزراء البريطاني في زمن الحرب.

من المتوقع أن يستحضر جونسون مجدداً أحد مواقف تشرشل فيما يحاول إبعاد بلده عن الاتحاد الأوروبي وتوثيق علاقته بالولايات المتحدة. استعمل تشرشل يوماً عبارة "علاقة خاصة" لوصف الروابط المميزة بين لندن وواشنطن. ومع اقتراب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيحاول جونسون الاستفادة من الوضع للتقرب من واشنطن حتماً.

يبدو أن جونسون يستفيد في هذه الظروف من الكيمياء التي تجمعه بترامب، إذ يعتبر هذا الأخير الزعيم البريطاني الجديد مختلفاً عن أسلافه. كانت تيريزا ماي امرأة أنيقة ولائقة وحذرة ومتحفظة ونافذة، بينما يبدو جونسون رجلاً أشعث الشعر وغريب الأطوار وجريئاً وصاخباً. هذه الصفات كلها تُخوّله أن يكون مقرباً من الرئيس الأميركي الذي أشاد به واعتبره "ترامب بريطانيا".

بنظر بعض المعلّقين، يعني إعجاب ترامب بجونسون أن الرجلَين يستطيعان إعادة إحياء العلاقة المميزة الخامدة بين البلدين، علماً أنها تقتصر راهناً على كلام مهذّب خلال المؤتمرات الصحافية الأميركية البريطانية المشتركة. لكن وراء الكلمات اللطيفة، تَقِلّ الأدلة التي تثبت أن واشنطن تعتبر تلك العلاقة مميزة. ولا شيء يوحي أصلاً بأن التقارب بين جونسون وترامب سيُغيّر الوضع بطريقة جذرية.

اكتشفت ماي هذه الحقيقة بأصعب طريقة. حين وصل ترامب إلى الرئاسة الأميركية في العام 2017، كانت ماي تظن على الأرجح أن تأييده لخطة "بريكست" سيساعدها على إخراج بلدها من الاتحاد الأوروبي، على اعتبار أن دعم الرئيس الأميركي يُطَمْئِن الشعب البريطاني المتوتر ويقنعه بأن مغادرة نطاقه الأوروبي يعني الترحيب به مجدداً في العالم الأنغلوفوني المتجدد. لكن رغم حرصها الدائم على مجاملته، لطالما أهانها ترامب واستخف بمكانتها في السياسة البريطانية المحلية.

أثبت ترامب مراراً وتكراراً أن العلاقات الشخصية أو التحالفات التاريخية لا قيمة لها في المجال السياسي. يكفي أن نسأل رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي الذي جامل ترامب في جميع المناسبات، لكنه لم يكسب منه إلا تشكيكاً علنياً بقيمة التحالف الدفاعي بين الولايات المتحدة واليابان. أو يمكن أن نسأل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرغم تقرّبه في البداية من ترامب، لم يقتنع الرئيس الأميركي بمتابعة الالتزام باتفاق باريس للمناخ أو اتفاق إيران النووي. بالتالي، من الواضح أن الولاء لترامب أحادي الجانب وغير متبادل.

من الأفضل على الأرجح أن نسمّي سياسة جونسون العابرة للأطلسي "التبعية الجديدة". خلال حرب العراق في العام 2003، وصف النقاد رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بـ"جرو" جورج بوش الإبن كونه لَحِق الرئيس الأميركي للمشاركة في الحرب من باب الولاء الأعمى له. لكن بلير كان يتصرف أيضاً نتيجة اقتناعه التام بتلك الخطوة وضَمِن بذلك نشوء علاقة قوية بين الولايات المتحدة وبريطانيا.

مع ذلك، ستكون العلاقة بين ترامب وجونسون مختلفة جداً. يبقى الرضوخ البريطاني عاملاً مشتركاً بين "التبعية الجديدة" ومسار العلاقة الثنائية السابقة. لكن يفرض الوضع هذه المرة درجة أكبر من الخنوع ولن يتأثر بأي نوعٍ من القناعات الإيديولوجية التي يحملها بوريس جونسون. والأسوأ من ذلك هو أن هذا النهج لن يضمن توثيق العلاقة الأميركية البريطانية على المدى الطويل.

لا يمكن اعتبار هذه الدينامية مفيدة لبريطانيا، لكن لم تبقَ خيارات كثيرة أمام جونسون بعد إصراره على سياسة "بريكست" المتطرفة. في الماضي، سعت بريطانيا إلى الحفاظ على علاقات حسنة مع شركائها الأوروبيين والولايات المتحدة معاً كي تستفيد من الطرفَين. حرص القادة البريطانيون السابقون على التنقل بين المعسكرَين لتقريب الحكومات الأوروبية الأخرى من السياسة الأميركية، طالما تحافظ واشنطن على هامش من المرونة. تركت هذه الاستراتيجية مساحة حرة للسياسة البريطانية المستقلة، حتى حين بلغت تبعية بلير للأميركيين ذروتها. تابعت تيريزا ماي تبنّي هذه السياسة، رغم إجراءات "بريكست"، وكانت تنحاز في معظم الأوقات إلى أوروبا في الخلافات العابرة للأطلسي بشأن مسائل مثل اتفاق إيران النووي أو قرار نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس.

كان موقف جونسون من المفاوضات حول خطة "بريكست" كفيلاً بقطع آخر العلاقات المتبقية بين بريطانيا وأوروبا. أدت محاولته ابتزاز الاتحاد الأوروبي عبر التهديد بالخروج منه بلا اتفاق إلى إثارة استياء المسؤولين والمواطنين الأوروبيين من بريطانيا. وكشف استطلاع جديد أجرته المحطة الحكومية الألمانية ARD أن 37% من الألمان فقط يعتبرون بريطانيا شريكة موثوق فيها، ما يشير إلى انخفاضٍ بمعدل 17 نقطة منذ شهر شباط. كذلك، توقّع 67% من الألمان أن تتدهور العلاقة بين البلدين بدرجة إضافية في عهد جونسون.

من دون دعم الأوروبيين، لن يقدّم جونسون أي معطيات قيّمة على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة. قد تكون مجاملة ترامب على أساس الروابط التاريخية أو القيم المشتركة وسيلة فاعلة خلال المؤتمرات الصحافية الودّية، لكنها لن تؤثر فعلياً على السياسة الأميركية. صرّح لورانس سامرز، وزير الخزانة الأميركي السابق، لقناة "بي بي سي" في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع: "لا تتمتع بريطانيا بأي نفوذ... بريطانيا يائسة وتحتاج إلى اتفاق في أسرع وقت. حين يكون شريكك يائساً، يمكنك أن تعقد أصعب الصفقات"! يعني ضعف موقف جونسون في المفاوضات واضطراره لتقبّل سياسة "التبعية الجديدة" بجميع عواقبها الدبلوماسية والجيوسياسية والاقتصادية.

على المستوى الدبلوماسي، تتطلب "التبعية الجديدة" تملقاً متواصلاً في الأوساط العامة والخاصة. كانت رسالة ترامب واضحة حين هاجم عبر "تويتر" السفير البريطاني المحترم في واشنطن، كيم داروش، لأنه كان صادقاً في بعض الوثائق الدبلوماسية: بريطانيا ليست في موقعٍ يخوّلها أن تنتقد الرئيس الأميركي! كان قرار جونسون بتحدي الأوساط الدبلوماسية البريطانية كلها وتجاوز هذه الإهانة الوطنية والتخلي عن داروش يوحي بأنه يفهم أصلاً كيفية تطبيق دبلوماسية "التبعية الجديدة". يجب ألا يتوقع أحد من حكومة جونسون أن تتمسك بمبادئ حكومة ماي وتعارض مواقف ترامب التي تنمّ عن العنصرية وكره الأجانب.

في المسائل الأمنية، من المتوقع أن تتأثر السياسة البريطانية بدرجة إضافية. كان أبرز خلاف بين ماي والسياسة الأميركية يتعلق باتفاق إيران النووي. فرفضت التخلي عن ذلك الاتفاق أو الانضمام إلى حملة "أقصى درجات الضغوط" التي أطلقتها إدارة ترامب ضد إيران، وتعاونت مع شركائها الأوروبيين لترسيخ آلية مالية جديدة اسمها "إنستكس" لتعزيز التجارة مع إيران بعيداً عن نطاق العقوبات الأميركية الثانوية.

بعدما صادرت إيران ناقلة النفط البريطانية، تعلقت واحدة من آخر خطوات ماي قبل رحيلها من منصبها بحشد قوة بحرية بالقرب من الخليج العربي بقيادة أوروبية وغير أميركية. لكن منذ وصول جونسون إلى السلطة، بدأت المبادرة الأوروبية تتلاشى. حتى أن الولايات المتحدة طلبت من بريطانيا وفرنسا وألمانيا الانضمام إلى عمليتها الخاصة، فلم تستطع بريطانيا المعزولة أن ترفض ذلك الطلب وانضمّت إلى العملية الأميركية رغم رفض شركائها الأوروبيين سابقاً. بعد وقتٍ قصير، وفي ظل استمرار الاعتداء الإيراني على المصالح البريطانية، يُفترض أن يتلاشى الدعم البريطاني لاتفاق إيران النووي أيضاً.

لكن سترتفع التكاليف التي تتكبدها حكومة بوريس جونسون بسبب "التبعية الجديدة" على المستوى الاقتصادي تحديداً. ترتكز حملة "بريكست بلا اتفاق" جزئياً على الفكرة القائلة إن صفقات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي، ستُعوّض عجز بريطانيا عن دخول السوق الأوروبية الموحدة. رسّخ ترامب هذا المفهوم وتعهد فور وصول جونسون إلى السلطة بعقد "اتفاقيات تجارية حرة وطموحة"، على أن تبدأ المفاوضات "في أسرع وقت بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي".

عند التدقيق بمبادئ التفاوض الرسمية التي طرحها ممثل التجارة الأميركية لإقرار اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وبريطانيا، يتّضح للأسف أنها تبدّي المصالح الأميركية أولاً وتهدف بشكلٍ أساسي إلى تسهيل وصول الولايات المتحدة إلى الأسواق الزراعية والدوائية البريطانية من دون تقديم أي تنازلات في المقابل. وأكد السفير الأميركي لدى بريطانيا، وودي جونسون، هذا الانطباع في وقتٍ سابق من هذه السنة، حين أعلن أن لندن عالقة في "متحف الزراعة". وكتب السفير أن بريطانيا يجب أن تقبل السلع الأميركية، مثل الدجاج المكلور والكائنات المُعدّلة وراثياً، لإبرام الاتفاقية التجارية. بغض النظر عن الخصائص العلمية لتلك المنتجات، لن يتماشى ترويجها مع مسار السياسة البريطانية المحلية. حتى أن محاولات فرض أسعار الأدوية الأميركية على نظام "الخدمة الصحية الوطنية" المقدّس في بريطانيا ستعطي نتائج أسوأ بعد.تداعيات مستقبلية خطيرة

من المتوقع أن تفرض "التبعية الجديدة" تنازلات صعبة سياسياً، أو حتى مهينة، على الحكومة البريطانية في مختلف المجالات. لكن تبدو تلك التنازلات بعيدة المنال حتى الآن. في الوقت الراهن، يُركّز جونسون على إنهاء إجراءات "بريكست" بحلول المهلة النهائية في 31 تشرين الأول. من الواضح أنه يحتاج إلى الولايات المتحدة ولا يهتم بتكاليف عزل بريطانيا ديبلوماسياً عن شركائها الأوروبيين التقليديين.

لكن على المدى الطويل، لا مفر من أن تُسبب "التبعية الجديدة" مشاكل خطيرة في العلاقات الأميركية البريطانية. يحمل 67% من الرأي العام البريطاني رأياً سلبياً بشأن ترامب منذ الآن. لا يسجّل أي زعيم عالمي آخر هذه النسبة السيئة، ولا حتى بوتين الذي أمر في العام 2018 بشن هجوم بالأسلحة الكيماوية على الأراضي البريطانية. إذا اضطرت بريطانيا للقتال في الحرب الأميركية ضد إيران وتقبّل المعايير الغذائية الأميركية الأدنى مستوى ودفع أسعار مرتفعة مقابل الأدوية الأميركية، سيصبح ترامب مكروهاً في بريطانيا بدرجة غير مسبوقة. في تلك المرحلة، لن تبقى العلاقة بين البلدين "مميزة" جداً!


الاتحاد الأوروبي يرفض اقتراح جونسون حول الحدود في إيرلندا


رفض الاتحاد الأوروبي أمس طلب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلغاء خطّة "شبكة الأمان" الحدوديّة في ايرلندا من أجل تنفيذ اتفاق "بريكست"، مشيراً إلى أنّه لم يطرح بدائل عمليّة.

وكان جونسون أرسل خطاباً إلى رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك أمس الأوّل، للتأكّيد أن بريطانيا لا يُمكن أن تقبل ما أسماه "شبكة الأمان غير الديموقراطيّة"، الآليّة المتّفق عليها لتجنّب نقاط حدوديّة بين ايرلندا، عضو الاتحاد، وايرلندا الشماليّة، الخاضعة لبريطانيا. لكنّ المفوضيّة الأوروبّية، التي قادت مفاوضات "بريكست" مع لندن، رفضت المقترح الذي طرحه جونسون في خطابه بأن تُستبدل "شبكة الأمان" بـ"التزامات لإيجاد ترتيبات بديلة". وفي هذا الصدد، قالت المتحدّثة باسم المفوضيّة ناتاشا بيرتود للصحافيين، إنّ "الخطاب لا يُقدّم حلّاً قانونيّاً عمليّاً لمنع عودة الحدود فعليّاً في جزيرة ايرلندا". وأثارت هذه التصريحات ردّاً حاداً من لندن، إذ حذّر متحدّث باسم الحكومة البريطانيّة من أنّه "إذا لم تتمّ إعادة فتح اتفاق الانسحاب وإلغاء "شبكة الأمان"، فلن تكون هناك إمكانيّة للتوصّل إلى اتفاق"، مضيفاً: "هذا الحلّ مستحيل بكلّ بساطة، كما تشرحه بوضوح رسالة رئيس الوزراء". و"شبكة الأمان" التي ينصّ عليها اتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي المبرم في تشرين الثاني 2018، اعتُبِرت المخرج الأخير وتلحظ "دائرة جمركيّة موحّدة"، تضمّ الاتحاد والمملكة، مع ربط أكبر لمقاطعة ايرلندا الشماليّة بعدد من قواعد السوق الأوروبّية المشتركة. ويأتي هذا السجال، في وقت يستعدّ جونسون للسفر إلى برلين وباريس، حيث يأمل في اقناع المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لمنحه مساحة في مسعاه للتوصّل إلى اتفاق "بريكست" جديد.


MISS 3