توماس س. كابلان

ما السبيل لردع أردوغان؟

29 تشرين الأول 2020

المصدر: Tablet

02 : 00

في بداية القرن التاسع عشر، حين كان لامارتين وشاتوبريان في أفضل أيامهما، كانت تركيا تُعرَف باسم "رجل أوروبا المريض". وبعد مرور قرنَين من الزمن، بدأت تركيا تتحول سريعاً إلى "سبب أمراض أوروبا". لكن لا يقتصر مفعولها على أوروبا، بل يمتد أيضاً إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى.

أصبحت أعراض المرض الجديد معروفة: الغزو الدموي لكردستان السورية، وقمع أي مظاهر ديموقراطية في غرب ليبيا، وخوض مواجهة مع قبرص ثم اليونان قبالة ساحل "كاستيلوريزو"، واستهداف الفرقاطة الفرنسية في 12 حزيران قبالة ساحل طرابلس، وشن حرب بالوكالة ضد جمهورية أرمينيا الصغيرة عن طريق أذربيجان، وتعليقات أردوغان الأخيرة أمام المشرّعين الأتراك حول اعتبار "القدس مدينتنا".

كذلك، أصبح أصل المرض واضحاً بما يكفي. منذ سنتين، خصّص كتابThe Empire and the Five Kings (الإمبراطورية والملوك الخمسة) جزءاً كاملاً لهذا الموضوع، فتطرّق إلى إعادة إحياء النموذج العثماني في ظل انتشار مشاعر الحنين إلى الحقبة التي سيطر فيها الباب العالي على وطن السيد المسيح وبلد سقراط، ودَمْج هذا المشروع الإمبريالي مع الإسلام المتطرف (على طريقة "الإخوان المسلمين") واعتبار أنقرة النسخة الجديدة من مكّة، ولا ننسى فرادة شخصية الرجل الذي يجسّد هذا الخليط المتفجّر حتى إشعار آخر (أو بالأحرى اضطراب شخصيته!).

لم تعد المسألة الأساسية تتعلق إذاً بتشخيص الوضع بل بتحديد الحلول التي يستطيع الغرب تطبيقها لاحتواء التهديد القائم.



دبابات الجيش التركي بالقرب من الحدود السورية في 21 كانون الثاني 2018



تبرز ثلاثة حلول محتملة على المدى القصير والمتوسط:

1. تركيا منتسبة إلى حلف الناتو منذ العام 1952. ومن المعروف أن معاهدة الناتو لا تشمل أي بنود لطرد أحد أعضائها. لكن هل يُعتبر هذا السبب كافياً للموافقة على التقرّب من نظامٍ يذبح في كردستان أفضل حلفائنا في المعركة ضد "داعش"؟ ألسنا مجبرين في الحد الأدنـى على التفكيـر باللعبة المزدوجة التي يخوضها بلدٌ اشترى طائرات مقاتلة "إف - 16" من الولايات المتحدة وأنظمة صواريخ مضادة للطائرات "إس - 400" من روسيا؟ وهل تبقّى أي مبرر للفكرة القديمة التي تدعونا إلى عدم دفع ذلك البلد إلى أحضان بوتين، مع أننا ندرك أن مبادرات الصداقة التي يطلقها لا تتوسّع مع بوتين وحده بل تستهدف أيضاً "منظمة شنغهاي للتعاون" التي تُعتبر من خصوم الناتو؟

لا بد من تعليق عضوية تركيا في الناتو. أو ثمة حاجة لتذكيرها بالمادتَين الأولى والثانية من المعاهدة على الأقل، فهما تُلزمان الدول الأعضاء بتسوية أي خلاف دولي قد تتورط فيه بالوسائل السلمية".

2. تملك تركيا العدائية والاستبدادية اليوم حليفاً قوياً آخر يموّل تحركاتها الاستفزازية ويهبّ لإنقاذها عند الحاجة، كما حصل حين أخذ أردوغان القس الأميركي أندرو برونسون رهينة لديه في صيف العام 2018 ثم هددت العقوبات الأميركية اللاحقة بتدمير العملة التركية. تلك الدولة الحليفة هي قطر. لكن تكمن المفارقة في إقدام الإدارة الأميركية التي فرضت تلك العقوبات على منح قطر صفة "الحليفة الرئيسية من خارج الناتو"، وقد صدر هذا الإعلان حديثاً عن نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الخليج العربي.

لكنّ هذه المكانة تسمح بالوصول إلى المعدات العســكرية والتقنيات الخاصـــــة بالبنتاغون، وتسـتفيد من هذه الصفــة في الوقت الراهـن بلدان مثل إسرائيل وأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ونيوزيلندا وأوكرانيا. هل تستحق تلك الدولة الصغيرة مكانةً في هذا النادي مع أنها تنفق أموالها بكل حرية، وبالتواطؤ مع أنقرة، لزعزعة استقرار مصر، وتنسف اتفاق السلام بين أبو ظبي والقدس، وتدعم الجهود الحربية بين "حماس" و"حزب الله"؟ حين ندرك دور قطر المتواصل للتهرب من العقوبات الدولية المفروضة على إيران، رغم استضافتها واحدة من أكبر القواعد العسـكرية الأميركية في المنطقة، ألن يكون عقد تحالف معها نهجاً جنونياً ومتهوراً بما أن أي اتفاق مماثل قد يصبح عرضة للاستغلال إذا بدأت العلاقات مع تركيا تتدهور بطريقة جذرية؟ وكيف يُعقَل ألا نأمل، ولو أنّ الوضع ميؤوس منه، في أن يؤخّر آخر العقلاء المسؤولين في واشنطن قراراً متسرعاً وغير مُلزِم قد يوسّع هامش حرية الدكتاتور العثماني الذي يتقاسم مع بوتين "شرف" أن يكون العدو العلني الأول للأنظمة الديمقراطية؟

رسالة إلى رئيس الولايات المتحدة المقبل: إذا أردتَ احتواء تركيا فعلاً، ابتعد عن قطر!

3. نصــــــل الآن إلى مسألة الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي. لم نعد نسمع الكثير عن هذا الموضوع. حتى أننا لم نعد متأكدين من أن القادة الأوروبيين يفكرون بهذه المسألة في الوقت الراهن. مع ذلك، تتابع عملية الانتساب التي بدأت في العام 2005 مسارها. فُتِحت الفصول الستة عشر من المفاوضات التي تتألف بموجب القانون من 32 بنداً ولا تزال مفتوحة باستثناء بند واحد، ويتابع الموظفون أداء مهامهم. كذلك، اجتمع «مجلس الجمعية» مجدداً في العام 2019.





وبعيداً عن الإعانات التي بلغت قيمتها 3 مليارات يورو وتم انتزاعها من الاتحاد الأوروبي عبر عملية ابتزاز مخزية تشمل المهاجرين، تتلقى أنقرة مساعدات بمئات ملايين اليورو سنوياً كجزءٍ من عملية الانتساب المستمرة. قد يظن البعض أن أحداً في أوروبا لا يؤمن بهذه العملية اليوم، بل إنها مجرّد استثناء شائب على القاعدة أو قصور ذاتي تبرع فيه الأوساط البيروقراطية في الاتحاد الأوروبي. قد تكون هذه الفرضية صحيحة، لكن لا يمكن قول الأمر نفسه عن تركيا. تحمل هذه المسألة معنىً رمزياً مختلفاً بالكامل عن وجهة نظر كل من يأخذ عناء قراءة خارطة العالم من منظور الإيديولوجيين الأتراك والحيثيين الجدد والبيزنطيين الجدد، إذ يعطي هؤلاء إطاراً فكرياً لهذا المشروع العثماني الجديد ويعتبرون أوروبا أرضاً مُعدّة للغزو، كما كان الوضع في زمن سليمان القانوني أو محمد الفاتح أو أنور باشا. لا نستطيع أن نفهم السبب الذي يجعلنا نعطي أنقرة مبرراً لاستعمال ذلك المعنى الرمزي. سيكون السماح لذئابها بالدخول من باب الاتحاد المفتوح للعمل على تفكيكه انتحاراً بمعنى الكلمة.

تكلّم تشرشل مع عصمت إينونو في كانون الثاني 1943 عن أهمية فتح الباب أو إغلاقه. تلقى الرئيس التركي حينها أمراً بالاختيار بين قيم أوروبا و»ميثاق عدم الاعتداء» الذي وقّع عليه مع النازيين قبل سنتين. يجب أن نخاطب أردوغان بهذا الأسلوب اليوم لردعه وتجنّب المخاطر التي يطرحها. إنه جانب آخر من حملة «مقاطعة أردوغان» التي انطلقت أخيراً.