داليبور روهاك

حان الوقت لتفكيك الاتحاد الأوروبي

6 تشرين الثاني 2020

المصدر: Foreign Policy

02 : 01

إحتاج الاتحاد الأوروبي إلى شهرَين تقريباً لفرض عقوبات على نظام ألكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا بعد حصول انتخابات رئاسية مزوّرة بكل وضوح وإطلاق حملة قمعية من الحكومة ضد الاحتجاجات الحاشدة، مع أنه سارع إلى رفض الاعتراف بالنتائج عند صدورها في آب الماضي، وأعلن أن ولاية لوكاشينكو الرئاسية الجديدة تفتقر إلى "أي شرعية ديموقراطية"، ودعا إلى إطلاق "حوار وطني شامل والتعامل بإيجابية مع مطالب الشعب البيلاروسي بإجراء انتخابات ديموقراطية جديدة. في غضون ذلك، منعت قبرص اتخاذ خطوات ملموسة طوال أسابيع، فاستعملت حق النقض الذي تملكه كورقة مساومة في خلافها الخاص مع تركيا.

في شهر أيلول، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بطريقة صاخبة أن الاتحاد الأوروبي أصبح بصدد تكثيف جهوده لمحاربة التغير المناخي. وكجزءٍ من هذه الخطة، سيحاول الاتحاد بحلول العام 2030 تخفيض انبعاثات الكربون بنسبة 55% مقارنةً بمستويات العام 1990، حتى أنه ينوي إنفاق أكثر من نصف تريليون يورو خلال السنوات السبع المقبلة على جهود مرتبطة بالمناخ. لكن لم تحصد هذه القرارات الإجماع مجدداً. تحدّت بولندا التي تتكل بشدة على الفحم والليغنيت (نوع من الفحم البنّي) الطموحات المرتبطة بالانبعاثات علناً. في الوقت نفسه، تتوسع مشاريع البنى التحتية الجديدة في مجال الغاز الطبيعي في أنحاء أوروبا الوسطى والشرقية، بما في ذلك خط أنابيب "نورد ستريم 2" الشهير وعدد من محطات الغاز الطبيعي المُسال. قد يكون الغاز الطبيعي أنظف من الفحم، لكنّ الإدمان على استعماله سيعيق خطط فون دير لاين.

في هذين الملفَين، لا مفر من التساؤل عن قدرة الاتحاد الأوروبي على معالجة مسائل مثل الوضع الجيوسياسي الأوروبي والتغير المناخي. هو قادر على معالجتها نظرياً، لكنّ الواقع أكثر تعقيداً بكثير.





في الحالتَين، يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى الأدوات السياسية اللازمة للتحرك بفعالية. كان يُفترض أن يُعالَج انعدام التطابق هذا منذ فترة طويلة عبر تطوير الاتحاد تمهيداً لتوثيق وحدته. وفق المنطق الذي يدافع عنه جزء كبير من الآباء المؤسسين للاتحاد الأوروبي، قد تؤدي القرارات السياسية والأزمات المتلاحقة إلى إتمام الهندسة المؤسسية للاتحاد تدريجاً. قد يجعل اليورو الاتحاد المالي الحقيقي خطوة حتمية مثلاً أو يؤدي مفهوم الشنغن عاجلاً أو آجلاً إلى صدور تأشيرات وسياسات لجوء مشتركة.

لكنّ الثقافة السياسية المبنية على "التفاؤل الكامل"، كما يسمّيها العالِم السياسي الإيطالي جيان دومينيكو ماجوني، ليست مستدامة. شهد العقد الماضي أزمات متعددة تُهدد وجود المشروع الأوروبي بحد ذاته، فتعامل الاتحاد مع هذه الظروف عبر حلول ارتجالية وموقّتة وافق عليها قادة وطنيون من خارج نطاق المعاهدات الأوروبية. ولم يقبل القادة الأوروبيون، على مضض، بإنشاء صندوق إنقاذ للبلدان التي تواجه ضائقة مالية إلا بعد زيادة احتمال الفوضى المرتقبة في منطقة اليورو، غداة الأزمة المالية في العام 2008. ولم تقرر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تعقد صفقة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لوقف تدفق المهاجرين إلا حين جازفت موجة طالبي اللجوء السوريين بإغراق منطقة الشنغن.

في معظم الأوقات، تبقى المشاكل الحادة والمزمنة عالقة، منها حُكم القانون في بولندا والمجر والتحديات التي تطرحها الصين والاضطرابات في سوريا. السبب مزدوج: أولاً، تفرض التركيبة المؤسسية وغير الاتحادية بالكامل في الاتحاد الأوروبي على الدول أن تبلغ مستوىً مرتفعاً من الاتفاق، أو حتى الإجماع التام، لاتخاذ القرارات الحاسمة، لا سيما تلك التي ترتبط بتعديل المعاهدات. ثانياً، تميل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي وجهات نظر مختلفة جداً حول كيفية معالجة التحديات السياسية المتنوعة ورسم مستقبل المشروع الأوروبي، بما في ذلك العمق المناسب للتكامل السياسي وتكثيف الالتزامات المستقبلية ودور المؤسسات الأوروبية وحجمها.

وفق الافتراض الكامن وراء "أكثر الاتحادات تماسكاً"، يجب أن يسير جميع أعضاء الاتحاد الأوروبي، رغم اختلافاتهم، في الاتجاه نفسه. لكنه مفهوم خاطئ. قد لا توافق بولندا وتشيكيا والسويد يوماً على استعمال عملة اليورو رغم التزامها الرسمي بتنفيذ هذا البند في نهاية المطاف. كذلك، قد يتجاهل صانعو السياسة الوطنيون الأهداف المناخية التي حددتها بروكسل، مثلما تمّ تجاهل الأهداف الاقتصادية الطموحة التي ذكرتها "استراتيجية لشبونة" ورؤية "أوروبا 2020". وقد لا تكون النزعة الشعبوية التي يتبناها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان حالة استثنائية عابرة بل وضعاً دائماً في بلدان مثل بولندا والمجر.

يمكن التغلب على هذه الخلافات على الأرجح عبر تخفيض عتبة الاتفاق المطلوبة في المجلس الأوروبي كي تتخذ الأغلبيات المؤهَّلة القرارات المناسبة بدل انتظار الإجماع التام. لكن بعد إقرار خطة "بريكست"، يجب أن يفكر أكثر الفدراليين تشدداً في منطقة اليورو مرتَين قبل إعطاء الدول الأعضاء فرصة التفوق عليهم بالتصويت.

لحسن الحظ، يمكــن اتخاذ مسار آخر. قبل معاهدة "ماستريخت"، كان المشروع الأوروبي يُعرَف على نطاق واسع بعبارة "المجتمعات الأوروبية". وبما أن تجميع هذه الكيانات في إطار الاتحاد الأوروبي لم يعزز وحدة هذه الكتلة بعد مرور 30 سنة، ربما حان الوقت للنظر إلى الاتحاد من منظور التعددية مجدداً.

لا تُعتبر فكرة التفكيك هذه جديدة، فقد عبّر عنها ماجوني في كتابٍ يُحلل المصاعب الشاقة التي واجهها الاتحاد الأوروبي خلال الأزمة المالية. لكن زادت الحاجة إليها خلال العقد الماضي تزامناً مع توسّع اتكال الاتحاد على الاستجابات الحكومية الدولية للتعامل مع أحداث أوروبا والخارج.

هذه الفكرة ليست متطرفة بأي شكل. لطالما شمل الاتحاد الأوروبي سوقاً مشتركاً يضمّ عدداً من الدول غير الأعضاء. كذلك، تشمل اتفاقية الشنغن والاتحاد النقدي مجموعات فرعية من أعضاء الاتحاد الأوروبي وعدداً من الدول غير الأعضاء أيضاً. فيما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى جعل أبسط محاولاته في مجال الأمن المشترك والسياسات الخارجية الموحّدة قابلة للتنفيذ، غالباً ما تتحرك الدول الأعضاء، الكبرى منها والصغرى، من تلقاء نفسها. تتعدد الحلول والصِيَغ الخاصة في مجالات كثيرة أخرى، صراحةً أو ضمناً، منها البروتوكول الإيرلندي حول "معاهدة لشبونة"، وقرار الدنمارك بعدم الانضمام إلى معاهدة "ماستريخت"، وانسحاب بولندا من "ميثاق الحقوق الأساسية".

لا داعي لاعتبار هذا النوع من المعاملة الخاصة تهديداً على الوحدة الأوروبية. عند تطبيقه بالشكل المناسب، قد يصبح أداة فعالة لضمان تماسك البناء الأوروبي فيما تُعمّق كتل مختلفة من الدول تعاونها في مجالات سياسية متنوعة. عندما رفضت قبرص فرض العقوبات على لوكاشينكو، كان يُفترض أن تتابع الدول الأعضاء الست وعشرون الأخرى طريقها. قد تثير هذه العملية بعض الأسئلة القانونية، بما أن الكيانات المُعرّضة للعقوبات تستطيع في مطلق الأحوال أن تصل إلى أسواق المال والعقارات في الاتحاد الأوروبي عبر قبرص، لكن يمكن تجاوز هذه المشكلة نظراً إلى حجم التدقيق الذي يقوم به الاتحاد في هذه المسائل بناءً على توجيهات مكافحة تبييض الأموال. إذا كانت مجموعة فرعية من أعضاء الاتحاد الأوروبي جدّية بشأن معالجة التغير المناخي، يجب ألا يقف المعارضون في طريقها. وإذا أراد معظم أعضاء منطقة اليورو تجميع ديونهم العامة على شكل أداة مشتركة للديون، فما الذي يمنعهم من فعل ذلك؟



مبنى بيرلايمونت، مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل



أطلقت بروكسل عدداً من المبادرات المؤسسية الرسمية كي تصبح لاعبة عالمية في مجال السياسة الخارجية والأمنية، أبرزها "التعاون المُنظَّم الدائم" و"صندوق الدفاع الأوروبي". لكن لضمان نجاح هذه الجهود، يجب أن تكون مشاركة المملكة المتحدة ناشطة رغم القرار البريطاني بالانسحاب رسمياً من الاتحاد الأوروبي. ربما لم تعد بريطانيا من أعضاء الاتحاد، لكنها تبقى من القوى العسكرية القليلة المتبقية في أوروبا.

من خلال تقبّل المشروع الأوروبي كمجموعة من المبادرات الموازية التي تشمل لاعبين مختلفين، يمكن إضعاف التركيز على دور المؤسسات الأوروبية المشتركة مثل البرلمان والمفوضية وإعطاء دور القيادة للدول الأعضاء. لكن بدأ هذا الوضع يتبلور أصلاً خلال العقد الماضي.

عملياً، تحول ضوابط معينة دون تفكيك الاتحاد الأوروبي بهذا الشكل، وهي ترتبط بمشاكل الاستفادة من قرارات أقوى الأطراف والانتقاء المعاكس، حيث تقوم البلدان التي تهتم في المقام الأول بالبقاء داخل الاتحاد بمطالبته بمعظم الخطوات في مجالات الاستثمار أو التحويلات المالية أو الأمن... إذا وافق معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي على الأهداف المناخية، قد يحصل تسرّب للكربون في بلدان مثل بولندا وقد تصبح الحلول الضريبية في هذه الحالة غير مناسبة. وإذا قررت مجموعة فرعية من البلدان في منطقة اليورو إنشاء الوحدة المالية اللازمة لجعل الاتحاد النقدي مستداماً على المدى الطويل، سيستفيد الأعضاء الآخرون من الاستقرار المالي المتزايد من دون تحمّل أي جزء من التكاليف.

لكن يبقى العالم مكاناً شائباً في مطلق الأحوال. يُفترض ألا تُقارَن الخلافات المشتقة من رضوخ الاتحاد الأوروبي لطبيعته التعددية بخليطٍ فاعل من السياسات والمؤسسات في أي اتحاد أوروبي مثالي، بل بواقع الاتحاد الشائب للغاية في الوقت الراهن، حيث تتعطل المبادرات المنشودة أو تنحرف عن مسارها طوال الوقت.

باختصار، سيكون تفكيك الاتحاد الأوروبي إلى أجزاء مجرّد اعتراف بالواقع اليوم. أما الخيار البديل، أي الإصرار على الوحدة الأوروبية والحلول المتشابهة لجميع المشاكل، فلن يزيد تماسك الاتحاد بل إنه أفضل مسار لتعطيل عمله وتجريده من أهميته.


MISS 3