شارل سابا

لماذا لا يشمل التدقيق الجنائي حسابات المسؤولين والمتعهّدين وحاشياتهم؟

7 تشرين الثاني 2020

02 : 00

أصدر مصرف لبنان في 27 آب 2020 التعميم 154 الذي يلزم فيه المصارف بدعوة "الأشخاص المعرضين سياسياً" PEPs الذين حوّلوا أموالاً إلى الخارج، إلى إعادة 30

في المئة من هذه الأموال إلى لبنان، وإيداعها في حساب مجمّد لخمس سنوات، تحت طائلة تحويل ملفّ صاحب العلاقة إلى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان. في السياق عينه، كانت هذه الهيئة قد امتنعت في أكثر من مناسبة عن إيداع النيابة العامة التمييزية أسماء الذين حوّلوا أموالاً إلى الخارج عقب 17 تشرين 2019، ومنهم سياسيون، مُتذرّعةً بعدم خرق قانوني السرّية المصرفية والنقد والتسليف، وعدم وجود قانون "كابيتال كونترول"، وعدم وجود شبهة على مصدر هذه الأموال لناحية التبييض أو تمويل الإرهاب، مكتفيةً بالتصريح للقضاء عن قيمة الأموال المحوّلة وطبيعتها. وبالرغم من مطالبة النائب العام التمييزي بالتوسّع في التحقيق في هذه المسألة، بقي تمنّع هيئة التحقيق الخاصة سيّد الموقف، بالرغم من التسريبات التي تحدّثت عن تحويل ملايين الدولارات العائدة لسياسيين والتي تطرح تساؤلات حول كيفية ايداعها أساساً النظام المصرفي في ظلّ قانون مكافحة تبييض الأموال ومبدأ "إعرف زبونك" المعمول فيه والذي يُلزم المودع تبرير مصدر أمواله.

ولتخطّي هذا الحجاب المُسدل قانوناً وممارسةً على العادات المصرفية السرّية للطبقة السياسية والسلطات المصرفية، جرت محاولة لتعديل قانون السرّية المصرفية من أجل استثناء الرؤساء والوزراء والنواب وموظّفي الإدارات والمؤسسات العامة ومتعهّدي الأشغال والخدمات، الذين تربطهم علاقة تعاقدية مع الأشخاص المعنويين العامين، بما يتيح للقضاء الإطلاع على حساباتهم من دون موافقة هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، خصوصاً وأنّ الخطوات الفردية بالرفع الطوعي للسرّية المصرفية بقيت في الإطار الإعلامي نظراً إلى المصلحة المشتركة للمودع والمصرف في عدم كشف هكذا نوع من المعلومات. إلا أنّ اقتراح القانون المذكور أفرغ من مضمونه في مجلس النواب، إذ حُصر حقّ رفع السرّية المصرفية بهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان كما هي الحال منذ سنوات، إضافة إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد غير المعيّنة أساساً والتي حاولت المنظومة السياسية وضع اليد عليها مسبقاً في قانون انشائها. زِد على ذلك أنّ التعديلات الأخيرة على قانون الإثراء غير المشروع، التي كان من المفترض أن تسهّل عملية التحقّق من مصدر أموال متعاطي الشأن العام، أتت ملتبسة لناحية خضوع الرؤساء والوزراء للقضاء العدلي في معرض هذا القانون، في ظلّ المادة 70 من الدستور التي تحصر هذه الصلاحية بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء.

وممّا يزيد طين انعدام فرص المحاسبة بلّة، طريقة تعيين أعضاء المجلس الأعلى الآنف الذكر، وأصول المحاكمات فيه التي تخضعه لشروط التوافق السياسي العريض. وعلى هذا النهج والمنوال، يأتي تعيين المجلس الأعلى للقضاء وأصول التشكيلات القضائية، فيجعل من السلطة التنفيذية "السياسية" شريكاً ممتازاً في المجريات القضائية، وسط رفض المنظومة وتعنّتها في إقرار قانون استقلالية السلطة القضائية الراقد في أدراج مجلس النواب.

تشير هذه الوقائع إلى إقفال مُتعمّد ومشترك ومزمن من قبل المنظومة السياسية والقابضين على المنظومة المصرفية، لسبل مبادرات المواطنين إلى محاسبة الإثراء من المال العام وتهريب الأموال، وإلى استنسابية اعتمدت عقب الانهيار المالي لتحميل "غير النافذين" من المواطنين والمودعين تبِعات الإنهيار، بعدما حُمّلوا لسنوات تبِعات ذاك الإثراء، عبر زيادة الضرائب والرسوم وتردّي نوعية الخدمات العامة، في موازاة نجاة النافذين جزئياً بالأموال المجمّعة عبر "قوننة" تهريبها والتكتّم عليها بالرغم من عدم نكران الأمر من قبل أركان المنظومة.

ختاماً، يأتي النقاش في التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وحصره بحسابات الدولة من دون أركانها المتعاقبين وسائر المستفيدين، في موازاة السيف الإستنسابي المشهر عبر التعميم 154 الآنف ذكره، ليظهر الإطار والسقف المضبوط للكباش الحاصل حول هذه المسألة. فتقاذف المسؤوليات والكباش بين أطراف المنظومة لم يصل إلى كسر ميثاق الصمت Omerta، ولم يصل إلى تعديل المنظومة القانونية المانعة للشفافية المالية. ويبقى من نافل القول إنّه غير ممكن التفتيش عن الأموال المنهوبة من دون تعقّب الحركة المصرفية، وأسوأ مخرجات هذه الأزمة أن يكون هذا التعقّب مشرّعاً للخارج بكلّ أجنداته، وممنوع على الوليّ الأساسي للمال: المواطن اللبناني.* عضو الهيئة التأسيسية في "المرصد اللبناني للفساد"