شوقي أبو لطيف

شوقي دلال وحوري الأرجواند

7 تشرين الثاني 2020

02 : 00

لوحة للفنان شوقي دلال

تتألف الجدارية الماسيّة الميلاديّة، للفنان شوقي دلال، من أطر شكليّة متدرّجة ومتنوعة ومختلفة، لكنها متواشجة برباط سحري قلّ مثيله، فهي مُصَمّمة على إيقاع هندسي ذي أرومة حضارية بعيدة، لكأنها تعود بنا الى ما تضمّنته نقوش بلاد ما بين النهرين من تسطير لأمجاد الملوك، الذين أفلحوا في بناء المدن والظفر بالنصر في مواجهة الأعداء المتربّصين، على أن شوقي دلال المبتدع لأبجديات متتالية، لا يستكين أمام النبأ التاريخي، ولا يقع في أسره، إنما يستحث ريشته على ترسيم الآتيات من ضروب المجد، يتخيّله، في بوح نغمي لوني، وفي تلامح ضوئي حروفي، وفي انسكاب مسرحي يعود بنا الى روائع المأساة الإغريقيّة، بخاصّة تلك المسرحيّات المتضمّنة في ثلاثيّة أوريست (أغاممنون، حاملات القرابين، الصافحات)، التي تبدأ بلعنة الخيانة وتستمر بتكرارها، وتنتهي بلعنة الإنتقام من الأم، لتُتَوّج بمطاردة ربات العقاب للجاني، ثم إعلان البراءة من على سطح منزل من أورث الإنتقام لأبنائه، بداعٍ شريف...

وإذ لم يشهد الفن التشكيلي المعاصر فيضاً من جمال الخطوط الشعورية، والبروق النورانية، كما يشهد الفن الشقدلالي الفينيقي المحدث، كيف لا وهذه لوحة قدموسيّة منيرة في تشكّلها الأبجدي، وفي سيال الأرجوان، إذ يبني الفنان التشكيلي المبدع لوحته الماسيّة، على عناصر مُستمدّة من واقع مدينة بيروت التراثي، إشارة الى اهتمامه بالتراث المعماري القديم لها، والى قراءته التاريخ المكتوب والمنحوت، سواء لجهة الإبداع الحقوقي والفكري، أو لجهة الآثار الشاهدة على حضارات المعمار، المتبقي بعد الزلازل، والمنتصب قبالة الشاطئ الأزرق...

ففي اللوحة تراسيم الأزمنة، على تجاعيد المشهد البيروتي منذ مدرسة الحقوق الشهيرة، مروراً بلبنان الكبير، وصولاً الى الحرب الأهليّة وتداعياتها، وتتويجاً بلهب بركان الرابع من آب، إذ إن العربة، التي تأخذ الزاوية اليسرى السفليّة من مرأى الناظر الى اللوحة، كناية عن عربة الأبجديّة الفينيقيّة، التي تحترق، فتترمّد اللغة عن بكرة أبيها، لكن الكيان يتنشّق دخان ورق اللبان، عندما ينتفض حوري الفينيق كي يأذن للسماوي أن ينجلي خلف السحائب السود، في أقصى "تنازع مندالي" بين النور والظلمة.

بيد أن سحر اليد الشقدلاليّة يلهب الذاكرة الوجدانيّة ببريق ضوئي أنيس، هو أشبه ما يكون بانعكاس النور على بلور شفيف في النوافذ الأولى من المدرّج المعماري التراثي البيروتي، المضيئة خلف العربة الحروفيّة، التي يتصاعد منها دخان رمادي، قد تكون هذه الإضاءة متأتّية من نور ليلة بدريّة قمريّة، على المدينة التي تتفوّح أنفاسها ببخور الخلاص، على مذبح السبات العميق للقيم..

ولئن كان المحراب، الذي يشكّل مقدّمة الولوج الى تراث بيروت الماسي، والمضمّخ بأبجديّة البكاء البركاني الدامع، والذي ربّما يكون بمثابة النُّصب المستقبلي المتخيّل لشهداء الأرجوان، فإن ما يقع على الجانب الأيسر منه، بالنسبة لمرأى الناظر، هو ذلك الحدث المصوّر في ذاكرة الزمن، نذيراً بميزان عدل عتيد، تشير إليه خطوط النور حول محراب الشهادة، وفوق مشهديّة البركان المريع، إذ يطوف على ضفّته، صوب البحر فُلُك أجرد، ينتظر ما يسامر أخشابه من متاع سفر وبشر.

وإذ يتجلّى الزمن البيروتي، في هذه الهنيهات من قيامة التراث، إثر زلزال مدمّر، فإنّه لا يلبث أن يتسارع، لإستعادة شرائط مسرحيّة جاذبة، ذلك أن الخوذ الأرجوانيّة لا تزال نصب أعين مريدي مسرح المدينة التاريخي، فها هم يشخصون بأبصارهم الى حوري الأرجوان، بيد أنهم لا يخفون توقاً مكتوماً الى ليالي أنس، في شتاء، تنفرج فيه الشوارع الفسيحة عن تراقص زينة الأعياد ما بين فراغات الأزمنة، وإطلالة زمن آخر يتشكّل في زاوية اللوحة على أقصى يمين الناظر، بأضواء تمحو الدخان قبالة قوس رمادي موشح ببعض زرقة معتمة، يقابله نفناف غيوم تغطي بعض زرقة منثورة في الأفق الأقصى لمبانٍ تعلو جدرانها وشائج من عرى علويّة تأبى التفكّك والإنحلال، على الرغم من أنين التواقيت والمآسي والجلجلات، على مشارف الطريق المؤدي الى ميناء الأمل... حيث النوافذ البيروتيّة المُشعّة بأصفر من أضواء عيد على عتمات دامسات.

مدهش هذا الشوقي الدلالي حيث يدهم الأباجيد المبتدعة لمسرح عريق في بنيان الحضارة، فالأفاريز التي تتّخذ اللونين الأسود والرمادي، على شرفات المنازل البيروتيّة وسطوحها، تتخلّلها تقطّعات بيضاء، تشي بكتابات أبجديّة، وأرقام مستوحاة من نقطة محرق لغويّة في المحراب البيروتي، الممهور بأحرف من دموع سوداء، تتسلّل إليها فسحات ضوء على أنين الدهشة، التي يذهب في خلالها، وسط يسار اللوحة الملتهب، شهداءٌ مسكونون بالإنتماء صوب عالم مشهدي مختلف تتنازعه أطر عدّة، من رؤية الهباء الرمادي، في بعض ملامح انفراج، وبعض أصداء أصوات تتأرجح ما بين أيد مرفوعة، وصخب صراخ وبكاء وكلمات مريرة لا تزال تختزن دعوة حرّى الى مجد أثيل.

ولئن اغتسلت أرصفة المدينة بماء الرماد، واكتحلت أبنيتها بخطوط نور وزرقة سماء، فإن الأرجواني يتصدّر المشهد، ذلك أنّه يتحرّك غير مؤطّر وغير مسطّر، ينبعث من كل ركام التاريخ المصوّر، يتضوّع بخوراً لبانيّاً مضمّخاً بالأسى، لكنّه لا يلبث أن يتوّج حجاباً لملكة بهيّة، تتقلّده وشاحاً ملوّناً بحبر وحبور وبحر وزنبق مائي أحمر، فيأنس إليها حوري الأرجوان، وقد عاد كي ينتصر للأبجديّة، من كهفه المقدّس تحت مياه البحر، ليعيد الى بيروت رماد الحروف وينتفض لمن صلبوا على جلجلة آلامها، من آباء الأباجيد المشتعلة بأعواد ثقاب العبث، فينجلي المسرح التشكيلي الشقدلالي عن نهضة الفنون الأصيلة، منذ الصافحات أو "ربات الغضب"، في مسرح أسخيلوس التراجيدي اليوناني، الذي كان يرتكز الى الأسطورة والتاريخ والإستعانة بكل المؤثرات المتوافرة من أثاث وملابس وأمتعة وجوقات غنائيّة وأشكال خرافيّة، فضلاً عن إمكان إدخال المظاهر الطبيعيّة من برق ورعد وزخّات مطر وضباب.

على أن شوقي دلال أسخيلوس الفن التشكيلي المعاصر، يبدّل المشهد الإنتقامي، المنتهي الى صفح وصك براءة يمنحان للمنتقم، بمشهد انبثاقي من ماء التكوين بالحرف والتلوين، ومن صعود الحوري الأرجواني الى ضفة المدينة الحزينة، الى أفق ملائكي تمسح فيه الملكة بيروت عن عينيها رماد الكآبة، وتحتضن حوري الأرجوان بين فلك وماء وآفاق ومبان وطريق سحيق.

* كاتب وأستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية