فيليب أوركارد

لا عودة إلى الوراء في العلاقات الأميركية - الصينية

14 تشرين الثاني 2020

المصدر: GPF - Geopolitical Futures

02 : 01

خلال الأشهر التي سبقت الانتخابات الأميركية، كثرت التوقعات حول المرشّح الذي تفضّل بكين وصوله إلى البيت الأبيض في كانون الثاني المقبل. وفي مقابلات متعددة مع وسائل إعلام غربية (مصادرها مجهولة)، أصرّ المسؤولون الصينيون على عدم تفضيل الرئيس الصيني شي جين بينغ لخيار معيّن، ما يعني أن رئاسة بايدن أو ولاية ترامب الثانية لن تغيّر مسار العلاقات الأميركية الصينية بطريقة جذرية.

يظن الكثيرون اليوم أن الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين خلال العهود الرئاسية التي سبقت ترامب كانت ترتكز على أفكار ساذجة وأمنيات صعبة التحقيق. وكان التشديد الدائم على أهمية التواصل مع بكين وضمّها إلى نظام التجارة العالمي مبنياً على فرضيات تفاؤلية مفادها أن مساعدة الصين على الاغتناء ستؤدي في نهاية المطاف إلى إرساء الديموقراطية فيها وتحفيزها على الالتزام بقواعد ومعايير النظام المعمول به. هذا ما يظنه مؤيدو هذا الرأي على الأقل.

لكن يخطئ هذا التحليل في قراءة الأحداث التاريخية. توضح وثائق الاستراتيجية الوطنية الأميركية منذ منتصف التسعينات، بالإضافة إلى النقاشات المعاصرة حول انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، أن إدارة كلينتون كانت تعرف جيداً طبيعة الحزب الشيوعي الصيني والمشاكل الاستراتيجية والاقتصادية التــــــي يطرحهــا صعود الصين على المدى الطويل (كانت حملة القمع في ساحة "تيانانمن" لا تزال حديثة العهد حينها).

لكن ارتكـــزت سياسات إدارة كلينتون الودّية نسبياً تجاه الصين (ثم سياسات جورج بوش الإبن وأوباما) على ثلاثة عوامل رئيسية. أولاً، كانت الولايات المتحدة مقتنعة بأنها لا تتمتع بالنفوذ الكافي لإجبار الحزب الشيوعي الصيني على اتخاذ أي خطوات لا يرغب فيها، لا سيما تلك التي يعتبرها كفيلة بإضعاف سيطرته على الصين. ثانياً، أدركت الولايات المتحدة أهمية التعاون مع الصين في المسائل التي تحمل مصالح مشتركة وأساسية للطرفَين مثل الانتشار النووي، والإرهاب، والاستقرار المالي العالمي، والتهديدات البيئية والوبائية وسواها. ثالثاً، باتت معظم الشركات الأميركية تتعامل مع الصين بحسب النتائج النهائية التي تصبو إليها.

هذا العامل الثالث صعّب على الولايات المتحدة أن تغيّر وجهتها بعدما بدأت تُكثّف تعاونها مع الصين. كانت بكين تملك من جهتها عدداً كبيراً من الأصدقاء ونجحت في تحقيق مصالحها في الولايات المتحدة، ما يجعل التكاليف الاقتصادية والسياسية لأي قرار مفاجئ بفك الارتباط بين الطرفَين أعلى من أن تتحمله أي إدارة أميركية، لا سيما في ظل ظهور مشاكل أكثر إلحاحاً (مثل الحرب العالمية على الإرهاب والانهيار المالي العالمي بعد العام 2008). في الوقت نفسه، اعتاد المستهلكون الأميركيون على الواردات منخفضة الكلفة وما كانوا مستعدين للتخلي عنها.

لكن شهد العام 2017 نقطة تحوّل بارزة. تزامناً مع قرار ترامب بإطلاق الحرب التجارية، بدأت المصالح الأميركية السياسية والاقتصادية والعسكرية تتشابك. ساد استياء عارم وسط الطبقة الأميركية الوسطى. وتم استبعاد عدد من الليبراليين الجدد وقطاعات الأعمال الأميركية بسبب إقدام الصين على تشويه الأسواق العالمية وانتهاكها لالتزاماتها تجاه منظمة التجارة العالمية ودعم بكين لممارسات مثل سرقة الملكية الفكرية. بدا وكأن تنامي نفوذ الصين السريع ووصولها إلى مستوى مقارب من القوة التي تنافسها عسكرياً (أصبحت مستعدة لفرض شروطها على معظم الدول المجاورة لها) انعكسا على أوساط الدفاع الأميركية. أدت هذه العوامل، فضلاً عن استنزاف التفوق التكنولوجي الذي تتمتع به القوات البحرية والجوية الأميركية، إلى نشر الشكوك وسط الحلفاء بشأن الالتزامات الأميركية وتوسّعت أجواء القلق في العاصمة واشنطن من احتمال أن تعجز الولايات المتحدة عن خوض المنافسة بين القوى العظمى. جاءت حملة القمع الصينية في هونغ كونغ لتقضي على أي تفاؤل متبقٍ بشأن إرساء الديموقراطية في الصين. في الوقت نفسه، أثارت معسكرات الاعتقال في "شينجيانغ" غضب العالم.

بعبارة أخرى، تكثر الأسباب التي تجعل جميع الدوائر الانتخابية القوية في الولايات المتحدة تكره الحزب الشيوعي الصيني. لذا تجد بكين صعوبة متزايدة في تحقيق مصالحها في الولايات المتحدة واستغلال الانقسامات الداخلية فيها وضمان استمرار وضع المراوحة معها. لم تحقق الحروب التجارية والتكنولوجية التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب تقدماً ملحوظاً بما يخدم عدداً كبيراً من أهداف الصينيين الأساسية. لكن لمجرّد أنه تمكن من التعامل معهم رغم التكاليف الاقتصادية المتزايدة وتزامناً مع الانهيار الاقتصادي المترتب عن انتشار فيروس كورونا، اتّضح واقع مفاده أن المعايير بدأت تتغير فعلاً.



جو بايدن والرئيس الصيني شي خلال زيارته للصين عام 2013 (أرشيف)



محاولات مستمرة

بالنسبة إلى بكين، لم يكن عهد ترامب نقلة نوعية كما يُقال بل تأكيد على شكوك قديمة مفادها أن الولايات المتحدة كانت تُركّز بشكلٍ استثنائي على كبح صعود الصين. ربما أدت الحروب التجارية والتكنولوجية في أوساط النُخَب الحاكمة إلى تضييق هامش المعارضة وإسكات القلقين من أي نتائج عكسية لديبلوماسية "الذئب المحارب" وإصرار الصين على معاداة الدول المجاورة لها باستمرار. لهذا السبب، تحتل الثقافة المؤسسية المبنية على الرقابة من أعلى المراتب إلى أسفلها في الحزب الشيوعي الصيني أهمية كبرى. هذا الوضع يخلق إعلاماً مُوجّهاً ويقمع التفكير الإبداعي ويشجّع كل من يطمح إلى نجاح مهني على تقبّل السياسات المعمول بها. سرعان ما يعتاد المواطنون على تأجيج النزعة القومية، ما يؤدي إلى زيادة التكاليف السياسية لأي تسوية مع "الشيطان الأكبر".

الأهم من ذلك هو أن القيادة الراهنة مقتنعة جداً بأن صمود الحزب (أو حتى أمن البلد وازدهاره) يرتكز على استمرارية معظم السياسات التي تثير استياء الولايات المتحدة أولاً. لهذا السبب، يصرّ شي جين بينغ على المذهب التجاري الذي تديره الدولة وقد اتضح موقفه في خطابٍ حديث له. ولهذا السبب أيضاً، تبدو بكين مسرورة بردود الأفعال العدائية تجاه تحركاتها في الهند وأستراليا وتايوان وأماكن أخرى وتشجّعت على القيام برهان محفوف بالمخاطر في هونغ كونغ.

على صعيد آخر، يبدو أن بكين تعتبر معظم سياساتها ناجحة. هي تظن مثلاً أنها تجاوزت أصعب اختبار منهجي فرضه عليها وباء كورونا المستجد وأن الولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى تلفظ أنفاسها الأخيرة وتنكر تراجعها الواضح. كذلك، لا يجد الحزب الشيوعي الصيني أي مبرر لتغيير مساره، حتى لو عنى ذلك أن يضطر لمواجهة ردود الأفعال الأميركية وحده ويتخذ مساراً خطيراً نحو مواجهة مفتوحة.

هذا هو التحدي الذي ورثه جو بايدن. للتعامل مع الصين، تقضي الاستراتيجية المثالية إذاً بالحفاظ على توازن القوى وإقناع الدول التي تحمل العقلية نفسها بتحمّل مخاطر الردود الانتقامية عبر الانضمام إلى تحالف يعادي الصين ضمناً، ومعالجة نقاط الضعف الاقتصادية والتكنولوجية المحلية من دون التسبب بأضرار مفرطة على مستوى الوضع الاقتصادي الأميركي، وكبح أكثر الدوافع الصينية عدائية من دون جعل التعاون حول المصالح المشتركة جهداً مستحيلاً ومن دون إغلاق جميع المسارات المحورية التي تؤدي إلى الحرب. عملياً، تبدو هذه الأهداف متضاربة في معظمها وستكون أي درجة من التقدم مكلفة على مستوى الوضع المالي والرصيد السياسي. من المتوقع أن يُستنزَف هذان العاملان نظراً إلى الأزمات الداخلية المتقاطعة التي سيتنقل بينها بايدن في المرحلة المقبلة.

قد تبالغ إدارة بايدن إذاً في الكلام عن التعددية وحقوق الإنسان وتبذل جهوداً مضاعفة خدمةً لمصالح أصدقائها وحلفائها في المنطقة، لكنها ستجد صعوبة كبرى في دعم مواقفها. قد ترغب مثلاً في زيادة المساعدات الأمنية إلى شركائها على طول بحر الصين الجنوبي بطريقة جذرية، لكن ستكون أولويات الميزانية برأي جميع الأطراف في واشنطن مختلفة. وقد ترغب في بذل جهود إضافية للدفاع مباشرةً عن المصالح المادية لشركاء الأميركيين في المياه المتنازع عليها ونسف اقتناع بكين بأنها توشك على قَلْب ميزان القوى في غرب المحيط الهادئ، لكن سبق وتوسعت عمليات القوات البحرية الأميركية وخفر السواحل أكثر من اللزوم وأصبحت هذه الجهات بأمسّ الحاجة إلى التعديل. على صعيد آخر، قد تعقد إدارة بايدن المرتقبة اتفاقاً سريعاً مع بكين لتخفيض الجزء الأكبر من الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية كونها تؤذي المستهلكين الأميركيين بدرجات متفاوتة، لكن لن تقدّم بكين في المقابل تنازلات كبرى. سيبقى النفوذ اللازم لكبح المذهب التجاري الصيني وسرقة التكنولوجيا بعيد المنال لأن الاتفاقيات التجارية مثل الشراكة العابرة للأطلسي ستكون فاشلة سياسياً ولن تُجبِر الشركات الأميركية التي ترفض التخلي عن الصين على المغادرة.

لهذه الأسباب كلها، لا تزال المسائل التي تعطيها إدارة بايدن الأولوية في الملف الصيني والتكتيكات التي تنوي استعمالها في خضم هذه الجهود غير مؤكدة. مع ذلك، لا مجال للعودة إلى الوضع السابق. بل تتعلق المسألة الأساسية اليوم بإيجاد نقطة الالتقاء التي تسمح للبلدَين بإقامة التوازن المناسب بين خيارَي المنافسة الاستراتيجية والحرب.


MISS 3