أنوش شاكيليان

مشهد ذكّرني بأسلافي الأرمن الهاربين من البطش

14 تشرين الثاني 2020

المصدر: New Statesman

02 : 00

تمثال بابيك وماميك في أرتساخ

ككثير من الأرمن المنتشرين في أصقاع العالم، لم أقصد "أرتساخ" يوماً. لم أتوجه إلى عاصمتها "ستيباناكيرت" من العاصمة الأرمنية "يريفان" بمركبة "مارشروتكا" (شاحنة صغيرة) طوال ست ساعات. رحلة تستغرق 35 دقيقة بالطائرة لولا احتمال أن تُسقِط أذربيجان طائرات الركاب في ذلك المجال الجوي. لم أتجول يوماً في الأديرة الهندسية من العصور الوسطى في سفوح الجبال الخصبة ولم أقف أمام وجوه الصخور البركانية العملاقة "تاتيك إيف بابيك" (الجدّ والجدّة)، النصب التذكاري العائد الى الحقبة السوفياتية. كما أنني لم أضطر يوماً للهرب من بلد أعتبره وطناً نهائياً.

لكن مع تصاعد الاعتداءات ضد المنطقة، أشعر بأنّ تلك الأرض باتت أقرب مني من أيّ وقت مضى. أسمع عن ارتفاع حصيلة القتلى واختراق وقف إطلاق النار يومياً. أشاهد صور كاتدرائية "غازانشيتسوتس" في "شوشي" الواقعة تحت وابل الصواريخ الأذربيجانية، وأتابع مقابلات مع سكان مرعوبين ومشاهد فظيعة تعيد إليّ صدى تاريخي الشخصي.

قصة عائلتي مرتبطة بتهجير الأرمن من أرض أجدادهم. حين قتل نظام "تركيا الفتاة" مليوناً ونصف مليون أرمني خلال الإبادة الجماعية بين 1915 و1923. هرب أجدادي من منطقة "قيليقية" الأرمنية في جنوب تركيا إلى "إسكندرونة" التي كانت حينها جزءاً من سوريا. وعندما استولى الأتراك عليها قبل الحرب العالمية الثانية مباشرةً، هربوا إلى بيروت حيث وُلد أبي وتربّى (لكنه عاد وهرب منها مجدداً إلى قبرص خلال الحرب الأهلية اللبنانية قبل الانتقال أخيراً إلى بريطانيا). وبدل أن تزدان شجرة عائلتي بأسماء معيّنة، تَرِد على ستة غصون منها عبارة بسيطة: "ضائعٌ بلا أي أثر".

الرابط المباشر بين معظم الشتات الأرمني قويّ حول العالم (شتات بثمانية ملايين نسمة، أكثر من ضعف العدد السكاني بأرمينيا). تاريخ الإبادة الجماعية قاسمٌ مشترك. نشاهد عن بُعد أبناء وبنات وطننا يخوضون حرباً شرسة كأسلافنا الذين اضطروا للهرب خلال الحرب العالمية الأولى. نقاط التشابه بين الأمس واليوم صادمة بشكلٍ مؤلم.

في الماضي كما في الحاضر، كانت بقية دول العالم منشغلة بأزمةٍ عالمية، ما سمح للبلدان الأكثر نفوذاً في جوار أرمينيا بالتحرّك من دون حسيب أو رقيب (ترفض تركيا حتى هذا اليوم الاعتراف بالإبادة الأرمنية). وفي الماضي كما في الحاضر، كانت المشاعر القومية قابلة للاستغلال. استغلّها في الحقبة الغابرة قادة السلطنة العثمانية المتصدّعة، ويستغلّها اليوم رئيس أذربيجان المستبدّ إلهام علييف والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أقوى داعم له.

في الماضي كما في الحاضر، كان النظام العالمي المروّج لمبدأ تقرير المصير مستعداً للتخلي عن الأرمن لصالح بلدان تتمتع بنفوذ جيوسياسي أكبر في الشرق والغرب. وكما حصل على مر تاريخ الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي، بقيت روسيا صديقة متقلّبة لأرمينيا (كان والدي يقول: "حين تعطس روسيا، تصاب أرمينيا بالزكام"!).

"أرتساخ" منطقة أرمنية تاريخاً وهويةً وحُكماً وسكاناً، لكنها اليوم عالقة داخل أذربيجان (نَسَبها جوزيف ستالين في العام 1923 إلى هذا البلد بخدعة إمبراطورية قديمة ترتكز على مبدأ "فَرِّق تَسُد"). وفي وقتٍ سابق من الشهر الحالي، أعلنت وزارة الخارجية الأرمنية استعدادها المشاركة في محادثات سلام تؤدي فرنسا وروسيا والولايات المتحدة فيها دور الوساطة. رفضت أذربيجان وقف القتال. التغطية الإعلامية غير المتكافئة للتحركات الأرمنية والأذربيجانية في الحرب الأخيرة مألوفة. كلّ أرمني يتذكّر العبارة التي تحب تركيا تكرارها عند إنكارها الإبادة الجماعية: "سقط ضحايا من الطرفَين".

في طفولتي كنتُ أشعر بأن "أرتساخ" نائية عني. في مدرسة الأحد الأرمنية التي كنا نرتادها كان المعلمون، بمن فيهم والدي، يفتحون خارطة القوقاز مشيرين بحزنٍ إلى المنطقة التي تستمد اسمها الأرمني التاريخي من العام 189 قبل الميلاد. وغالباً ما كان هؤلاء يلجؤون الى خرائط أقدم لشرح انكماش مملكة أرمينيا القديمة على يد السلطنة لقرونٍ عدة. كانت الخرائط تلك بمثابة دعوة لنا، نحن أبناء الشتات، للتمسّك بأي شبرٍ متبقٍ من الأرض.

زرتُ أرمينيا مرة يتيمة للمشاركة في اجتماعٍ عائليّ فوضويّ جمعني مع أقارب من باريس وبيروت ونيويورك ولندن. تجوّلنا جميعاً في بلدٍ لم يكن وطننا يوماً. شربنا نبيذ الرمان في مطاعم داخل أقبية وأُرغمنا على الرقص جماعياً بشكلٍ دائري قبل تناول المقبلات. تنقلنا بين أديرةٍ وكنائس وصلبان "خاشكار" الحجرية المميزة رمز أول بلدٍ مسيحي على الإطلاق. شملت الجولة نُصباً تذكارية سوفياتية منمّقة ومجموعة أبراج تحمل ختم الاتحاد السوفياتي.

ويبقى جبل "أرارات" المغطى بالثلوج أبرز ما أتذكّره من تلك الرحلة. موقعٌ مقدس للأرمن كونه المكان الذي رَسَت فيه سفينة نوح. لا تخلو البيوت والمطاعم والشركات الأرمنية حول العالم من صور هذا الجبل وهو أهم رموز البلاد، لدرجة إطلاق اسمه على مشروب "براندي" أرمني شهير أهداه ستالين إلى وينستون تشرشل في "يالطا"، فأُعجِب به الأخير لدرجة أنّه راح يطلب كمياتٍ منه سنوياً منذ ذلك الحين.

المنظر كان ساحراً لكننا لم نستطع الوصول إلى "أرارات" أبداً. في الأفق سياج طويل: إنها الحدود التركية. أغلقت تركيا حدودها مع أرمينيا في العام 1993 رداً على حرب سابقة في "أرتساخ"، حين حاول الإقليم الانفصال عن أذربيجان مع انهيار الاتحاد السوفياتي. الجبل الشامخ هناك... بعيد كبعد الاحلام الأرمنية بأراضيهم المسلوخة كحلم لقاءٍ لن يتجسّد يوماً.


MISS 3