طوني فرنسيس

النخبة التي خلقت وطناً و"النخبة" التي تدمّره

21 تشرين الثاني 2020

02 : 00

كان يمكن ألا ينال لبنان استقلاله في تشرين الثاني قبل 77 عاماً، فالأمر بسيط للغاية. كان يكفي أن يواصل القادة في ذلك الحين إنقساماتهم الطائفية وميولهم السورية أو العروبية أو "الجبلية"، ليستمرّ الإنتداب الفرنسي في إدارة شؤون البلد الى ما لا نهاية.

لم تكن المرحلة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مرحلة تحرّر ونيلٍ فوري للإستقلال، بل كانت أقرب الى محطّةٍ لإعادة إقتسام العالم، وتثبيت ما كان جرى إقتسامه بين الدول المتحالفة منذ الحرب الأولى. وفي عام 1943، عام الإستقلال اللبناني، لم تكن الحرب قد انتهت. كانت أوروبا تحت الإحتلال النازي، فيما يجهد الإتحاد السوفياتي لصدّ الألمان في ستالينغراد. صحيحٌ أنّ فرنسا المهزومة كانت تحتلّ لبنان، لكنّ الإنكليز لم يتركوا لممثّلي الإحتلال الألماني أن يقودوا الإنتداب في لبنان وسوريا، وبسرعة، صارت السلطة للجيوش الفرنسية تعود للجنرال ديغول وفرنسا الحرّة. بديهي أن يشتدّ تمسّك الفرنسيين بما هو بين أيديهم، وهو ما ظهر عند نهاية الحرب. أحكموا سيطرتهم على الجزائر والمغرب وتونس، وخاضوا في البلدان الثلاثة وغيرها من البلدان المُسْتَعْمَرَة حروباً للبقاء، ورفض الإنكليز التزحزح من بلدان ضخمة في الهند ومصر وساحل الخليج العربي واليمن، فيما كان السوفيات يقيمون أنظمةً موالية في أوروبا الشرقية ستعيش أقلّ من نصف قرن.

لماذا وكيف تمكّن لبنان من انتزاع استقلاله في تلك الظروف غير المؤاتية؟ ما من جواب يقوم على التخيُّل، أو على إعادة الفضْلِ للجنرال سبيرز والعداء "الميكي ماوسي" بين الإنكليز والفرنسيين، بلغة عرب ذلك الزمان. والجواب الواقعي هو أنّ نخبة السياسيين والمثقّفين ومختلف التيارات السياسية التقت، في لحظة محدّدة، حول هدف تحقيق الإستقلال. كان من هذه النخبة بشارة الخوري (الماروني) ورياض الصلح وصائب سلام وعبد الحميد كرامي (السنّة) وصبري حمادة وعادل عسيران (الشيعيان) والمير مجيد ارسلان (الدرزي) وكميل شمعون وبيار الجميّل وعدنان الحكيم، ومختلف الأحزاب والتيارات التي إلتأمت في إطار المؤتمر الوطني للدفاع عن الإستقلال، ومن وجوهه فرج الله الحلو والدكتور جورج حنا مسؤول التموين في ذلك الإطار الشعبي.

لقد حقّق هؤلاء الإستقلال بوحدتهم ووضوح رؤيتهم لهدفهم، وكانوا في غالبيتهم شبّاناً لم يتخطّوا الأربعين من أعمارهم، وقد تركوا، للأسف، وطناً يقوده عجائز متناحرون، أكبر من الإستقلال سنّاً، وأصغر من تحمّل المسؤولية تجربةً. بعد 77 سنةً يكاد البلد واستقلاله يضيعان، إلا أنّ وضوح الرؤية على أشدّه. فمثلما تحمّلت نخبة وطنية مهمّة بحجم خلق وطن، تتحمّل "نخبة" تُعدّ على أصابع اليد اليوم مسؤولية تخريب هذا الوطن.