روي أبو زيد

فيروز في عيدك... نتمسّك بالأمل

21 تشرين الثاني 2020

02 : 00

غريبٌ هذا الشعور لدى سماعك أغاني فيروز، خصوصاً الوطنية منها. 

تنسى لبضع ثوان النوائب والمصائب التي تعيشها يومياً في بلد تعيش فيه فيروز ويحضن رفات صباح ووديع الصافي وزكي ناصيف وحليم الرومي وآخرهم... رمزي النجار. تتساءل: هل نحن مجموعون تحت سماء وطن واحد، هل نحن فعلاً وطن جبران خليل جبران وسعيد عقل ويوسف الخال ومهى بيرقدار ووطن شهداء الحرية والصحافة؟ هل عايشنا فعلاً جبران تويني وسمير قصير وميشال أبو جودة وسليم اللوزي؟

تسرح بك الافكار الى حين توقيع العلم اللبناني في عهد الاستقلال مروراً بعصر لبنان الذهبي في عهد الرئيس كميل نمر شمعون حيث ازدهر لبنان وواكب اللبنانيون واقعاً معيشياً ذهبيّاً. ويعود الواقع ليصفعك ويذكّرك أنك تعيش في عهد الذلّ والموت المستمرّ. لكنك تتنبّه أنك تعيش في زمن فيروز، سفيرتك الى النجوم، فتســأل وطنك: "كيفك إنت؟"، ليجيبك بغصّة: "راجعين يا هوى راجعين".

تطلّ على شرفة أمَلِك ليتراءى أمامك مرفأ بيروت المفجّر والمهدّم ويدور في رأسك شريط يحمل توقيع فيروزتك: يا مينا الحبايب يا بيروت...

تبكي، تتملّكك الغصة إذ ما تراه أمامك ليس سوى خراب ودمار وموت. مرفأ أصبح مقبرة كبيرة تضمّ رفات آلاف الضحايا الذين غابوا. ولكن لا الحجر ولا البشر يعلم السبب في ظلّ صمت سياسي مطبق وتحقيقات أصبحت طيّ النسيان...

فيروز... ماذا نقول في عيدك وأنت العيد ورائحة لبنان العطرة؟ أنت يا تمثّلين وطناً نحلم به جميعاً وتجسّدين لوحة تنبض حياة.

أنت من زارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيتك بالرابية، وقلّدك ليلة الاحتفال بمئوية لبنان الكبير وسام جوقة الشرف الفرنسي وهو أعلى تكريم رسمي في فرنسا أنشأه نابليون بونابرت العام 1802 وأهديته لوحة فنية. قال ماكرون آنذاك: "تحدثت معها عما تمثله في لبنان الذي نحب". ولكن ما هو هذا الـ"لبنـــان" الذي نحبّه؟ قد نتمكّن من الإجابة عبر سرد الأحداث التي دفعت بفيروز لغناء "رفيقي صبحي الجيز". فما هي قصّة هذه الأغنية؟

في منتصــــف السبعينيات في بيروت، كان يعيش شاب فقير يعشق الموسيقى. تعلّم العزف على آلة البيانو حتى أتقنه، كما أُغرِم بموسيقى الجاز، فعزفها في أحد مطاعم العاصمة حيث كان يعمل. طلب منه مدير المطعم آنذاك أن يمتنع عن عزف أي من مقطوعات الجاز، لأنها «لا تتناسب وذوق الطبقة المخمليّة التي تقصد المطعم لقضاء السهرات». مرّ هذا الشاب في أحد شوارع العاصمة بعد الانتهاء من العمل وصادف «زبّالاً» يافعاً نحيلاً يجلس على قارعة الطريق، ويقرأ أحد الكتب الملقاة في القمامة. وسرعان ما نشأت بينهما صداقة على أسس الكتب والثقافة.

إعتاد العازف زيارة صديقه «الزبال» ليلياً، واعتاد «الزبال» على أحاديث الشاب الطريفة التي تتناول خاصة أبناء الطبقة التي يقضي وقته كل ليلة بينهم.

ومع مرور الأيام، اكتشف العازف أنّ صديقه مناضل صغير أخطأ القدر في وضعه بالمكان الصحيح... هذا هو «صبحي الجيز» زبّال حارات بيروت.

ومن هذا المنطلق، اتّخذ الشاب من صديقه «صبحي الجيز» مثالاً أعلى في النضال ضد الساسة الذين لا يهتمون بالمهمشين والضعفاء.

مرّ، وفي ليلة شتاء باردة من ليالي كانون خرج العازف من منزله قاصداً مطعمه الدافئ ليقدّم وصلته الموسيقية المعتادة. لكنّه عرّج الى الحارة التي يتواجد فيها «الرفيق صبحي الجيز». ويجده ملقى على الأرض بين أكوام القمامة، معانقاً مكنسته وقد توفي من البرد بجوار صندوقه وكتبه.

اتجه الموسيقي الحزين نحو مطعمه الفخم في الجميزة. ومن دون تردد همس في الميكروفون: «كفاكم بروداً.. فالبرد قتل صديقي». ووضع أصابعه على البيانو، وبقلب ثائر وغاضب، بدأ يعزف وللمرة الأولى لحناً من موسيقى الجاز.

إرتاع صاحب المطعم واقترب منه ليذكّره بأن هذا النوع من الموسيقى ممنوع بكل المقاييس. رفض الشاب المكسور أن يصغي له، واسترسل بعزف الجاز بجوارح متفتّحة وحزينة. غضب المدير وصرخ قائلاً: «بس يا غبي، خلصنا بقا!»، ولكن الشاب لم يكترث واستمر بالعزف.

وفي هذه الأثناء، نهضت إحدى سيدات المجتمع وقالت له بلهجة مليئة بالاستعباد والفوقية: «يعني هلأ إنت شو قصتك؟» نظر إليها الموسيقي الحزين وهو مستمرّ بالعزف وأبلغها: «رفيقي صبحي الجيز تركنــــي ع الأرض وراح، رفيقـــي صبحي الجيز حــط المكنسة وراح، راح ما قلّي شو بقــدر أعمل لملايين المساكـين... رفيق يا رفيق وينك يا رفيق؟»

وكم من صبحي الجيز يا فيروز سيموتون هذا الشتاء بسبب البرد والجوع. لن يتمكّنوا من الاحتماء من الصقيع في منازلهم التي هدّمها انفجار بيروت ولن يستطيعوا إطعام أولادهم في ظلّ وضع إقتصادي صعب ومتردّ!

في عيدك الـ85 يا فيروز أنظري انحو شمس المساكين واطلبي منه ألّا يتركنا.