جورج فريدمان

روسيا تبحث عن عمقها الاستراتيجي

25 تشرين الثاني 2020

المصدر: GPF - Geopolitical Futures

02 : 01

في العام 2005، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابٍ ألقاه أمام "الجمعية الاتحادية الروسية" أن سقوط الاتحاد السوفياتي شكّل أكبر كارثة جيوسياسية في تاريخ روسيا. كان يعني بكلامه أن تفكك الاتحاد السوفياتي سيكلّف روسيا العامل الذي سمح بصمودها في وجه الغزوات الخارجية منذ القرن الثامن عشر: العمق الاستراتيجي.

لا يستطيع أي بلد أوروبي أن يهزم روسيا بشكلٍ حاسم إلا عبر احتلال موسكو. لكنّ موسكو بعيدة جداً جغرافياً ويسهل أن تُستنزَف قدرات أي جيش يتقدم نحوها وسرعان ما يحتاج إلى تعزيزات عسكرية وإمدادات قبل الوصول إلى الجبهة. وفيما تتقدم القوات الهجومية نحو روسيا، لا مفر من أن تضعف في مرحلة معينة. وصل هتلر ونابليون إلى موسكو وهما في حالة من الإنهاك التام. وهُزم الاثنان بسبب بُعد المسافة وظروف الشتاء القاسية ولأن القوات الدفاعية لم تكن تفتقر إلى الإمدادات.

في ذروة الحرب الباردة، كانت مدينة "سانت بطرسبرغ" تقع على بُعد ألف ميل تقريباً من قوات حلف الناتو وموسكو على بُعد 1300 ميل. اليوم، تبعد عنها "سانت بطرسبرغ" مسافة 100 ميل وموسكو 500 ميل. لا يهتم الناتو بالتورط مع روسيا ولا يملك القدرات اللازمة لفعل ذلك أصلاً. لكن أدرك بوتين أن الاهتمامات والقدرات تتغير مع الوقت وأن الغرب يشكّل أخطر تهديد على روسيا.

ثمة مدخل محتمل آخر إلى روسيا من جهة الجنوب. كانت الإمبراطورية الروسية تستعمل هذا الطريق كمنطقة عازلة مع تركيا، لا سيما خلال الحروب الروسية التركية المتعددة. وكانت روسيا تحظى بحماية القوقاز، تلك المنطقة الجبلية الوعرة التي تمنع أي شكل من الاعتداءات لدرجة ألا يفكر حلف الناتو بهذا الخيار أصلاً. لكن إذا نجح أي طرف في شق طريقه عبر الجبال، سيصبح على بُعد ألف ميل تقريباً من موسكو ويصل إلى أرض مسطحة ومفتوحة حيث يكون الطقس أفضل حالاً بكثير من الظروف التي كانت لتواجهها القوات الهجومية من جهة الغرب.

يتألف القوقاز من سلسلتَين جبليتَين: السلسلة الشمالية أكثر وعورة، والسلسلة الجنوبية أقل صعوبة بدرجة معينة. يضمّ شمال القوقاز الشيشان وداغستان حيث ينتشر انفصاليون إسلاميون. تقع الشيشان في وسط السلسلة الشمالية وكانت تطرح تحدياً صعباً على روسيا، لكن سبق وانتصر بوتين على هذه الجبهة في وقتٍ سابق من عهده. كان بوتين يخاف تحديداً من جنوب القوقاز المؤلف من أرمينيا وجورجيا وأذربيجان لأن هذه الجبهة تركت روسيا وشكّلت دولاً مستقلة. حافظت روسيا على تحالفها مع أرمينيا، الدولة الأضعف بين الثلاثة، وربطتها علاقات معقدة مع أذربيجان، مُنتِجة النفط المزدهرة. أما جورجيا، فقد اصطفت إلى جانب الولايات المتحدة.





لو شكّلت دول جنوب القوقاز تحالفاً معادياً لروسيا ودعمت الولايات المتحدة مثلاً أي شكل من التقدم في شمال القوقاز، كان الحاجز ليتحطم ويُفتح مسار جديد شمالاً. لهذا السبب، طبّقت روسيا استراتيجية تقضي بفرض ضوابط قوية في شمال القوقاز تزامناً مع خوض حرب ضد جورجيا، أكبر تهديد عليها جنوباً، في العام 2008 انطلاقاً من المعطيات الجغرافية وتحالف جورجيا مع الولايات المتحدة. لقد أثبتت تلك الحرب حدود القوة الأميركية التي كانت منشغلة أيضاً بحروبها الخاصة في العالم الإسلامي. كانت تلك الاستراتيجية ناجحة لكنها لم تنسف التهديدات التي تطرحها الجبهة الجنوبية على المدى الطويل.

كانت روسيا تحتاج إلى استراتيجية في الغرب وأخرى في الجنوب. في الغرب، تطور جزء من تلك الاستراتيجية في أوكرانيا ومنع تحويل ذلك البلد إلى مصدر تهديد من دون استعمال قوات روسية كبرى. في هذا الإطار، تم التوصل إلى اتفاق ضمني مع واشنطن: لن تُزوّد الولايات المتحدة أوكرانيا بأسلحة هجومية قوية، ولن ترسل روسيا في المقابل قوات عسكرية حاشدة إلى أوكرانيا باستثناء حركات التمرد المنتشرة أصلاً هناك. باختصار، لم ترغب روسيا ولا الولايات المتحدة في خوض الحرب وفضّل كل طرف منهما نشوء منطقة عازلة وهذا ما حصل في النهاية.

سرعان ما أصبح جزء آخر من المنطقة العازلة متاحاً إذا جاز التعبير. تقع بيلاروسيا على بُعد 400 ميل تقريباً من موسكو. ومن المعروف أن بولندا في غربها تعادي روسيا وتشمل بعض القوات الأميركية. يطرح هذا الوضع تهديداً كبيراً على موسكو، إلا إذا انضمّت بيلاروسيا بالكامل إلى المحور الروسي. شكّلت الانتخابات التي شهدتها بيلاروسيا هذه السنة فرصة لتحقيق ذلك. واجه الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، وهو حاكم البلد منذ وقتٍ طويل وآخر داعم للزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، معارضة شرسة. أعلن الروس دعمهم للوكاشينكو وحافظوا على مكانته. في المقابل، لا يستطيع لوكاشينكو أن يعقد أي تسوية مع الغرب من دون أن توافق عليها روسيا، وهو مضطر أيضاً للتكيّف مع المتطلبات الروسية العسكرية. تطرح دول البلطيق تهديداً حتى الآن، لكنّ طبيعة تضاريسها تجعل الاعتداءات الواسعة صعبة شرقاً. كذلك، يعجز البولنديون والأميركيون عن زيادة قوتهما شرقاً إلا إذا أطلقا شكلاً من الصراع، لكنهما لن يُقدِما على ذلك. إذا صمد نظام لوكاشينكو، سيتحسن الوضع على جبهة روسيا الغربية بدرجة كبيرة.

الوضع أكثر فوضوية في الجنوب. خاضت أذربيجان وأرمينيا معركة طويلة، وبدرجات متفاوتة من القوة، بسبب «ناغورنو كاراباخ». وفي الفترة الأخيرة قررت أذربيجان، بدعمٍ من تركيا، أن تطلق هجوماً واسعاً على هذا الإقليم. تجنبت أذربيجان اندلاع صراع شامل هناك طوال 20 سنة (لا يمكن اعتبار حرب الأربعة أيام في العام 2016 صراعاً شاملاً). لا تزال الأسباب التي دفعتها إلى شن هذا الهجوم الأخير غامضة. في المقابل، تشتق رغبة تركيا في إطلاق صراع ناجح على الأرجح من مشاكلها الاقتصادية، بالإضافة إلى التغيرات التي طاولت سياستها في منطقة البحر الأبيض المتوسط وعجزها عن فرض إرادتها في سوريا. كانت تركيا تحتاج إذاً إلى تحقيق انتصار في مكانٍ ما، فاعتبرت مساعدة حليفتها في الاستيلاء على «ناغورنو كاراباخ» خطوة منطقية.

لكنّ الوضع الحقيقي أكثر تعقيداً. الروس متحالفون مع أرمينيا ولا شك في أنهم لم يرغبوا في هزيمة حليفتهم. كذلك، لم تشأ روسيا أن تتحول تركيا إلى قوة بارزة في القوقاز، وكانت تعرف طبعاً خطط أذربيجان لأن أجهزتها الاستخبارية كانت لترصد أي تحركات أذربيجانية ولا تستطيع أذربيجان من جهتها تحمّل كلفة تهميش جارتها الشمالية. لهذا السبب، تبدو الفكرة القائلة إن الروس ما كانوا يعرفون شيئاً عن خطة الحرب مستحيلة. حتى أن روسيا أعطت على الأرجح موافقتها الضمنية على خطط أذربيجان.

كانت هذه التحركات كلها ممكنة في نهاية المطاف لأن روسيا هي التي شاركت في التفاوض على إنهاء الحرب، والأهم من ذلك هو أنها وافقت على إرسال حوالى ألفَي جندي لحفظ السلام في «ناغورنو كاراباخ» لمدة تصل إلى خمس سنوات على الأقل. يشكّل هذا العدد من الروس في تلك المنطقة قوة حاسمة ولا أحد يستطيع التورط معها. نتيجةً لذلك تجد حليفة روسيا، أرمينيا، قوات روسية في شرقها الآن بينما تجد أذربيجان قوات روسية في شمالها وفي غربها أيضاً. تواجه جورجيا اليوم وضعاً مشابهاً. عملياً، اتخذت روسيا خطوة كبرى لاسترجاع جنوب القوقاز أو فرض سيطرتها هناك على الأقل. وبفضل انتشار قوة روسية كبرى يحق لها التمركز في مكانها لفترة طويلة، تلاشى مصدر تهديد محتمل على المدى الطويل. قد يطرح وجود القوات الأميركية في جورجيا مشكلة. لكن نظراً إلى غياب أي رغبة أميركية في شن هجوم من أي نوع، من المستبعد أن تبدي الولايات المتحدة استعدادها لنشر قوات حاشدة في المنطقة. وتستطيع روسيا أن تتعايش طبعاً مع وجود عدد صغير من المدرّبين الأميركيين في جورجيا.

عدا عن أرمينيا، أصبحت تركيا الخاسرة الكبرى من هذه التطورات، فقد تم استبعادها من قوات حفظ السلام. شاهدت تركيا كيف اتفقت أذربيجان، الحليفة الأساسية في المنطقة، مع روسيا ووافقت على كبح الطموحات التركية فيما كانت أنقرة بأمسّ الحاجة إلى تحقيق انتصار معيّن. كذلك تزامنت هذه الأحداث، عمداً أو عرضياً، مع المرحلة الانتقالية الرئاسية في الولايات المتحدة: يكون اتخاذ القرارات في واشنطن صعباً في هذه المرحلة عموماً، لكنه شبه مستحيل هذه المرة. يصعب ألا نفترض أن الروس استفادوا من الأحداث الأخيرة أو كانوا وراء حصولها منذ البداية. في مطلق الأحوال، تشكّل نجاحاتهم الواضحة في بيلاروسيا ثم في جنوب القوقاز خطوات محورية لتحقيق وعد بوتين بكبح العواقب الاستراتيجية التي سبّبها سقوط الاتحاد السوفياتي من دون الحاجة إلى إنشاء وطن موحّد.

في النهاية، يبقى مفهوم العمق الاستراتيجي محورياً على المدى الطويل وقد أصبحت أهميته محفورة في ذاكرة روسيا. لكنّ تأثيره يبدو ضئيلاً في الوقت الراهن. لا تهتم الولايات المتحدة ودول حلف الناتو بغزو روسيا لأي سبب. قد تكون موسكو مضطرة لافتراض أسوأ السيناريوات، لكنّ مشاكلها الأكثر إلحاحاً تتعلق فعلياً باقتصادها واتكالها على صادرات النفط كأهم مصدر للمداخيل من دون أن تستطيع التحكّم بالأسعار. نفّذت روسيا انقلاباً استراتيجياً واضحاً لكنها تواجه حتى الآن المجموعة نفسها من الضغوط المالية والسياسية الداخلية التي ترتكز عليها توقعات المحللين. لم تعالج موسكو مشاكلها الأساسية إذاً عبر المناورات الاستراتيجية، مهما كانت مفيدة. ومن دون إحداث التعديلات اللازمة في اقتصادها، لن تتلاشى الأزمة من تلقاء نفسها.


3