ميتين غورجان

العلاقات الأميركية - التركية في عهد بايدن: مواجهة أم مصالحة؟

27 تشرين الثاني 2020

المصدر: Al Monitor

02 : 01

جو بايدن مع الرئيس التركي أردوغان / قصر يلدز باسطنبول، في 23 كانون الثاني 2016
يبدو أن عهد بايدن في واشنطن سيكون اختباراً صعباً على تركيا إذ ستحدّد تحركات أنقرة مسار تطور العلاقات الأميركية التركية الشائكة. من المتوقع أن تُحدِث إدارة جو بايدن المرتقبة تغيرات عميقة على مستوى الروابط التركية الأميركية التي تحوّلت إلى مجرّد علاقة غريبة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان اللذين يطبّقان مقاربة ذات طابع شخصي مفرط في مجال السياسة الخارجية.

خلال عهد بايدن، يُفترض أن تسترجع السياسة الخارجية الأميركية طابعاً مؤسسياً مضاعفاً، على عكس أسلوب ترامب غير المسبوق الذي ارتكز على مقاربة انعزالية وشعبوية وتجاهل تام للهيئات الدولية. بناءً على مقابلات بايدن وتصريحاته وكتاباته خلال السنة الماضية، يسهل أن نستنتج أن السياسة الخارجية الأميركية في عهده سترتكز على أربعة مبادئ أساسية: تقوية الديمقراطية عالمياً، وتعزيز التعاون الأمني مع الحلفاء، ونشر العولمة التي تحمي الطبقات الوسطى وتعطي الأولوية للتجارة الحرّة العالمية، وحماية البيئة.

تشير المبادئ التي يشدد عليها بايدن إلى أجندة إصلاحية داخلية ودولية تقوم على أسس النظام الدولي الليبرالي الثلاثة: التجارة الحرّة، الديمقراطية السياسية، الأمن الجماعي.

يبدو أن تركيا أصبحت محط نقاش محتدم داخل فريق السياسة الخارجية التابع لبايدن فيما يستعد للمرحلة الانتقالية التي تُمهّد لاستلام السلطة، وتبرز في تلك النقاشات مقاربتان مختلفتان.

تفضّل المقاربة الأولى نهج التعاون والمصالحة. يعتبر مؤيدو هذا التوجه تركيا حليفة أساسية ودولة محورية في الجناح الجنوبي من حلف الناتو ولا تستطيع الولايات المتحدة تحمّل كلفة خسارتها أو السماح بابتعادها عن كتلة الدفاع الغربية والتوجه نحو روسيا. برأي هذا المعسكر، ستؤدي أي مواقف أميركية صارمة أو عقوبات اقتصادية ضد تركيا إلى تعزيز النزعة الاستبدادية لحكومة أردوغان وإحكام قبضتها على السلطة. لهذا السبب، يُفترض أن تُرسّخ واشنطن مكانة تركيا في كتلة الدفاع الغربية بأي ثمن عبر استعمال الحوافز الاقتصادية والديبلوماسية والأمنية تزامناً مع دفع البلد إلى تطبيق إصلاح ديموقراطي سلس عن طريق التزامات ذكية تسمح بتقوية المعارضة.

يعترف مؤيدو أردوغان بأهمية هذه المقاربة مع أنهم دعموا ترامب علناً في الانتخابات الرئاسية. لم تهنئ أنقرة بايدن على فوزه سريعاً، لكنها أطلقت جهوداً حثيثة للتواصل مع الرئيس المُنتخب منذ أن أرسلت له رسالة تهنئة في 10 تشرين الثاني. وفي مقالة لافتة نشرتها صحيفة "ديلي صباح" التركية الموالية للنظام في 14 تشرين الثاني، ربط برهان الدين دوران، رئيس منظمة بحثية بارزة وموالية للحكومة، بين وعود أردوغان الأخيرة بتطبيق إصلاحات اقتصادية وقضائية وديموقراطية محلياً وبدء "حقبة جديدة في السياسة الدولية" غداة فوز بايدن.

يظن مؤيدو المصالحة الأتراك أن أنقرة تستطيع مساعدة إدارة بايدن في جهودها الرامية إلى إصلاح العلاقات العابرة للأطلسي واحتواء روسيا في ليبيا وسوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود والقوقاز.

يبدو أن المدافعين عن سياسة المصالحة يتفوقون على المعسكر الآخر في فريق السياسة الخارجية التابع لبايدن. لذا يسهل أن نتوقع تفضيل إدارة بايدن للمقاربة التصالحية خلال الأشهر الأولى من عهده لاختبار الرد التركي ثم رسم السياسة المناسبة بناءً عليه. أما الامتناع عن التعاون مع أنقرة فقد يعني الانتقال إلى المقاربة البديلة التي ترتكز على المواجهة والإكراه.

يشكّل مؤيدو هذه المقاربة حوالى ثلث فريق السياسة الخارجية التابع لبايدن ويطالبون بتطبيق "استراتيجية العصا" ضد تركيا، ما يعني إطلاق حزمة فورية وشاملة من العقوبات والاتكال على الديبلوماسية القسرية تزامناً مع استعمال الوسائل الاقتصادية والأمنية والسياسية اللازمة.

تبدو الظروف مؤاتية كي يطبّق بايدن هذا النوع من المقاربات. بعد إقدام تركيا على شراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية "إس - 400"، باتت أحكام "قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" تنطبق على أنقرة. حتى أبسط العقوبات بموجب هذا القانون قد تُسبب مشاكل كبرى لتركيا.

على صعيد آخر، يستمر التحقيـــــــق الأميركي ضد بنك "هالك" التركـــــي للإقراض العام بعد اتهامه بمساعدة إيران على التهرب من العقوبات الأميركية، ويظن الكثيرون في واشنطن أن ذلك التحقيق قد يتوسّع كي يشمل أعضاءً من عائلة أردوغان.

بشكل عام تكثر الأزمات في العلاقات التركية الأميركية إذاً، وهي جدّية لدرجة أن يجد بايدن وأردوغان صعوبة كبرى في التوصل إلى حل وسط. يمكن تعداد تسع نقاط خلافية على الأقل تجازف بزعزعة العلاقات الثنائية.

أولاً، تتعلق الأزمة الأساسية على الأرجح بقضية الأكراد واحتمال إطلاق عملية عسكرية تركية جديدة ضد الجماعات الكردية السورية. يفضّل بايدن التحاور مع الأكراد وهو معروف بدعمه لـ"حزب الاتحاد الديموقراطي" الكردي السوري وجناحه المسلّح "وحدات حماية الشعب"، مع أن أنقرة تعتبر هذه الجماعات امتداداً لـ"حزب العمال الكردستاني" الانفصالي الذي حارب أنقرة طوال أربعة عقود تقريباً وهو مُصنّف دولياً كتنظيم إرهابي. لذا سيكون التوغل العسكري التركي الجديد في شمال سوريا احتمالاً وارداً في السنة المقبلة لردع "حزب الاتحاد الديموقراطي" و"وحدات حماية الشعب" ومنع تعاونهما مع الولايات المتحدة.

ثانياً، من المتوقع أن يسرّع بايدن التحقيق في قضية بنك "هالك" بعدما أبطأ ترامب مساره، لكنه لن يؤثر على التحقيق شخصياً على الأرجح. مع ذلك، قد تتأثر مجريات القضية بطبيعة السياسة التي يتبناها بايدن تجاه إيران.

ثالثاً، تستعد تركيا لتشغيل أنظمة "إس - 400" وتستمر إجراءات فصلها عن برنامج الطائرات الهجومية "ف - 35" المشترك بسبب شراء تلك الأنظمة. أصبحت بطاريات "إس - 400" الأربع موجودة الآن في أنقرة وجاهزة للاستعمال. هددت واشنطن بفرض العقوبات في حال تنشيط تلك الأنظمة بالكامل. يعني التنشيط الكامل استخدام البطاريات في أماكن عملها وتشغيل راداراتها للبدء بتعقب الطائرات العسكرية. من المستبعد أن تتخذ أنقرة هذه الخطوة قبل أن يستلم بايدن منصبه في كانون الثاني المقبل. كذلك، قد يُستعمل أي قرار تركي بإلغاء خطط التشغيل كورقة مساومة في أحداث محتملة لاحقة مثل تهديد أردوغان وعائلته بالعقوبات أو تصاعد التوتر بسبب إطلاق حملة عسكرية تركية جديدة في شمال سوريا. ستكون ردة فعل موسكو على هذه المماطلة مسألة محورية أخرى لا يتطرق إليها الكثيرون في تركيا.

رابعاً، سيطرح احتدام المنافسة في مجال الطاقة في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة تحديات إضافية على العلاقات الثنائية. بدأت الولايات المتحدة تُكثّف تعاونها العسكري مع اليونان والقبارصة اليونانيين في ظل تقرّب أنقرة من موسكو. تشعر تركيا من جهتها بالقلق من احتمال أن يضاعف بايدن تلك الجهود، فقد سبق واتهم الرئيس الأميركي المُنتخب أنقرة بإطلاق "تحركات استفزازية" في المنطقة.

خامساً، من المتوقع أن يتحول تعاون تركيا مع روسيا في مجال الطاقة، بما في ذلك محطة "أكويو" للطاقة النووية التي يبنيها الروس في جنوب تركيا، إلى أزمة أخرى مع الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة.

سادساً، قد تؤجج المشاكل التركية الداخلية الاضطرابات مع واشنطن في ظل تدهور وضع الديموقراطية والحقوق الأساسية والحريات وحكم القانون وحرية الإعلام والعلمانية في أنقرة. في شهر تموز الماضي، أدان بايدن بصرامة قرار أردوغان تحويل الصرح البيزنطي القديم "آيا صوفيا" إلى مسجد.

سابعاً، قد تستأنف إدارة بايدن حواراً مؤسسياً مع أنقرة، عن طريق وزارة الخارجية بشكلٍ أساسي، لكن قد تعترض أنقرة على هذا النوع من التعديلات لأن جميع القرارات باتت تتركز الآن في القصر الرئاسي.

ثامناً، قد يؤدي الصراع المتجدد بين أذربيجان وأرمينيا في "ناغورنو كاراباخ" إلى توسيع الشرخ بين واشنطن وأنقرة التي تدعم أذربيجان بقوة. كذلك، سبق وأيّد بايدن خطوات تهدف إلى الاعتراف بالمذابح المرتكبة بحق الأرمن في عهد السلطنة العثمانية ووضعها في خانة الإبادة الجماعية، وقد أعلن في وقتٍ سابق من هذه السنة: "أنا أقف إلى جانب جميع الأرمن والجالية الأرمنية الأميركية التي قدمت مساهمات كبرى في بلدنا وأدعو لاستذكار وتكريم ضحايا الإبادة الأرمنية".

أخيراً، من المستبعد أن يتسامح بايدن مع نزعة الحكومة التركية إلى استعمال خطاب مُعادٍ للولايات المتحدة بقدر إدارة ترامب.

باختصار، ستَرِث إدارة بايدن مجموعة كبيرة من الخلافات الشائكة مع تركيا. وحتى لو حاول بايدن تحسين الروابط بين البلدين، من الواضح أن أردوغان لم يعد يتّكل على فريق قادر على إرجاع العلاقات الثنائية إلى مسارها السليم. لقد تآكلت القدرات المؤسسية في أنقرة لدرجة أن تتجاوز أي مبادرة تصالحية واعدة ودائمة حدود إمكاناتها الآن. من المتوقع أيضاً أن تكثّف موسكو الضغوط على أنقرة في سوريا وليبيا والبحر الأسود وفي صراع "كاراباخ" وقطاع الطاقة رداً على الجهود التركية الرامية إلى التقرب من واشنطن.

في النهاية، يبدو أن أنقرة بدأت تستعد منذ الآن لإقامة توازن صعب بين موسكو وواشنطن في السنة المقبلة.


MISS 3