هادي بو شعيا

"المافيوية" السياسية... وجهاتٌ وأوجهٌ وكرات نار!

27 تشرين الثاني 2020

15 : 52

ننظر في بيروت، نستمع ونصغي الى قلب العاصمة، الذي كاد أن ينبض مجدّداً، بعد مطالبة المحقّق العدلي، المولج التحقيق بقضية إنفجار مرفأ بيروت فادي صوان، البرلمان اللبناني التحقيق مع وزراء سابقين وحاليين مشتبه بارتكابهم مخالفات ذات صلة بهذه الجريمة التي عصفت بمدينة بأكملها.


طلبٌ جاء عقب انتظار محلي ودولي دام أربعة اشهر لنتائج تحقيق قد يؤشر الى المزيد من الانتظار! لماذا؟ كيفية توجّه صوّان بعد كل هذا الوقت للبرلمان و"رمزية التوجيه"؟ كيف سيتفاعل النواب الحاليين مع طلب صوّان؟ اي رسائل سيتلقفها اللبنانيون؟ ما قراءة المجتمع الدولي لهذه الخطوة في هكذا توقيت؟


مما لا شك فيه أنه على إثر نكبة المرفأ، اعتبر كثيرون أن اللحظة قد حانت لإحداث صدمة إيجابية تشعل ثورة قضائية وقانونية في البلاد، بغية تطبيق العدالة الغائبة منذ زمن عن بلد يعاني الامرّين وأكثر. لكن، مع الاسف الشديد، على ما يبدو أن العقبات القانونية والقضائية وما يعتريها من ثغرات كثيرة ناهيك عن "تسلّط" السياسة على القضاء يحول دون ذلك.

اليوم، هناك وجهتا نظر في ما يتعلق بموضوع طلب القاضي من مجلس النواب سؤال الوزراء المعنيين عمّا حصل من "إهمال". وربما تأتي خطوة صوان لإزالة جميع العقبات التي تحول دون ردّ طلباته باستدعاء الوزراء المعنيين، وهذا الأمر سبق له وان حدث في أكثر من مناسبة، حيث طلب قضاة عدليون من السلطة السياسية استدعاء وزراء إلى التحقيق لكن التملّص كان سيّد الموقف.

في المقابل، يرى البعض أن هذه الخطوة لا تشبه مثيلاتها في السابق، إذ تأتي لرفع المسؤولية عن القضاء عموماً والقائها على مجلس النواب، ما يصطلح تسميته بـ"تقاذق لكرات نار" بين السلطتين التشريعية والقضائية، حيث مرتع المتاهات والتعقيدات التي تحول دون النتيجة المرجوّة. علماً أن المحقق العدلي يتمتع بصلاحيات استثنائية تمكّنه من استدعاء ايًّا كان، ولأسباب مختلفة غير الواردة بمحاكمة "الرؤساء والوزراء". اقلّه انطلاقاً من المبادئ البديهية كالمساواة بين اللبنانيين، إقرار العدالة ومنع عرقلة سير التحقيقات. لكن، بحسب البعض يبدو أن الضعوط كبيرة ولا يستطيع التعامل معها من جهة، ومن جهة ثانية، أسهل طريق للخروج من هذا المأزق هو رمي المسؤولية على مجلس النواب. وكلّنا يعرف ماذا تعني عبارة "المسؤولية على النواب"...

والجدير ذكره هنا، أنه اذا ما توافرت النوايا السياسية الحسنة، لكان حلّ المسألة أسهل، إذ حسب القوانين المرعية الإجراء، هناك المجلس الوطني لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي عُيّن أعضاؤه ولم يُعيَّن قضاته نتيجة غياب التسويات، وما يعيق نجاح هكذا خطوة أي إرسال أي رئيس أو حتى وزير إلى هذه المحكمة، يتطلّب موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب ما يُعتبره البعض من سابع المستحيلات، في ظل ما تشهده الساحة السياسية اليوم من انقسامات عمودية.

أضف إلى ذلك، هناك خشية من طبيعة جريمة المرفأ التي يمكن ان تؤثر كثيراً على حسن سير التحقيق. خصوصاً وان الاحتمالات التي تقف خلف التفجير متعددة ويمكن إدراجها على النحو الآتي: عمل خارجي والمقصود به إسرائيل أو عمل تخريبي، أو عمل إرهابي وأخيراً الإهمال.

في هذه الحال، إذا ما أتت الكارثة نتيجة تخريب او إرهاب عندها تناط المهام بالقضاء العدلي المولج بقضايا أمن الدولة العليا والتصدي للمسائل الإرهابية... اما اذا كانت نتيجة إهمال، فهنا لا يوجد نص قانوني يشير إلى أن تداعياته، حتى لو طالت عددًا كبيرًا من الضحايا وخلّفت اضرارًا على المستوى الوطني، ينتج عنه حكماً جرمياً. عندئذ يمكن للقاضي أن يرفع مسؤوليته عن متابعة قضية لا تندرج ضمن اختصاصه، وبالتالي يجب أن تحوّل القضية هنا إلى النيابة العامة الاستئنافية، وفي هذه الحال، حتى الموقوفين اليوم تحت ذمة التحقيق يمكن إطلاق سراحهم ببساطة وتعود بذلك القضية إلى المربّع الأول.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا إلى اي حدّ سيبقى رهان المواطن اللبناني عالقاً للتوصل إلى نتيجة في ظل جملة التعقيدات المذكورة أعلاه؟ على الرغم من انسداد الأفق في وجه اللبنانيين المتطلعين للتوصّل إلى العدالة التي تقف مكتوفة الأيدي اليوم؛ إلا أن مشهد كارثة المرفأ لا تزال عالقة في الوجدان المجتمعي اللبناني، خصوصًا وانه كيفما جال في بيروت، لا زالت صور الدمار عالقة في ذهنه، ناهيك طبعاً عن الخسائر التي طالت مئات الأرواح وآلاف المصابين ما يزيده اصراراً على المطالبة بإحقاق العدالة. ولكن، فلنتأمل سوياً بشعب نُهِبت أمواله وذُل أمام طوابير المصارف وقُتل وشُرّد وبات حتى بلا مأوىً، أمام كل هذه المشهدية المهينة لكرامة الوطن قبل أي شيء آخر، يقف القضاء اللبناني عاجزاً لا يحرّك ساكناً...

ولعل أحد أبرز معوّقات تشكيل الحكومة اليوم يتجلّى في مسألتين: الأولى، التحقيق الجنائي المالي لكشف عملية السطو على أموال المودعين. والثانية، الإصلاحات القضائية.

ما يزيد الأمور تعقيداً، أن الطبقة السياسية موحّدة بالكامل ومتماسكة، صحيح أنها تختلف على كل شيء باستثناء موضوع لفلفة قضايا الفساد، خصوصًا اذا ما تمحّصنا بأسماء الوزراء المطلوبين والمتعاقبين على وزارات المال والعدل والنقل والاشغال العامة، نجدهم منتمين إلى الأطياف السياسية كافة، ما ينذر بارتفاع منسوب القلاقل والاضطرابات لدرجة طمس الحقائق بشتى السبل، خصوصاً إذا ما تم استدعاء أحد الوزراء او الرؤساء حاليين كانوا ام سابقين وفُتح ملف واحد فقط ستكرّ السبحة وستتساقط أحجار "الدومينو" تباعاً، لتطيح بطبقة سياسية فاسدة ومقيتة.

ختاماً لا بد من الإشارة إلى أنه كان يجب، ومنذ اللحظة الأولى، إنشاء محكمة خاصة بانفجار مرفأ بيروت تتمتع بصلاحيات خاصة لمحاسبة الضالعين ايًّا كانوا ولأي جهة سياسية انتموا، ولكن مجرّد غضّ الطرف عن هكذا توجّه يشير إلى نوايا "مافيوية" سعت، منذ اللحظة الأولى، على اختلاف وجهاتها وأوجهها لطمس الحقيقة ولتطيير المِلف بالكامل.