ميرا قمدار

الحرية في فرنسا... هل تتراجع؟

2 كانون الأول 2020

المصدر: The Atlantic

02 : 01

الرئيس إيمانويل ماكرون خلال خطاب له / 2 تشرين الثاني 2020
بعد قطع رأس المعلّم صامويل باتي في 16 تشرين الأول الماضي على يد شاب ثار غضباً حين أقدم باتي على عرض الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة للنبي محمد، خلال إحدى حصصه في المدرسة الإعدادية التي يُعلّم فيها، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بألا تتردد فرنسا في دفاعها عن حرية التعبير. لكن بحجّة الحفاظ على قيم الجمهورية الفرنسية الأساسية، أقرّت حكومة ماكرون وأعضاء حزبه تشريعاً جديداً يفرض القيود على تلك القيم. ما لم يتم تعديل القوانين المقترحة أو إلغاؤها، سيتراجع هامش الحرية في فرنسا قريباً.

تهدف ثلاثة مقاطع جديدة من التشريع إلى جعل الفرنسيين أكثر أماناً عبر تقييد الحقوق الديموقراطية. ويستهدف مشروع القانون الذي يُحدد ميزانية الأبحاث في الجامعات الفرنسية خلال العقد المقبل وأقرّه مجلس الشيوخ الفرنسي في 20 تشرين الثاني الاحتجاجـــات الطلابية، لكنه يشكّل طعنة حقيقيـــة للحرية الأكاديمية.

يشمل مشروع القانون بنداً يُجرّم التجمعات التي "تزعزع الهدوء والنظام" داخل حرم الجامعات وقد تصل الغرامة المفروضة على المرتكبين إلى 45 ألف يورو أو السجن حتى ثلاث سنوات. أُلغي تعديل يطالب بحصر الأبحاث الأكاديمية بالإطار الذي يتماشى مع "قِيَم الجمهورية" في اللحظة الأخيرة، بعد حملة احتجاجية قوية من المثقفين لأنهم كانوا يخشون أن يهدف هذا الطرح فعلياً إلى تقييد حرية إجراء التحقيقات والأبحاث.

قد يكون ذلك التغيير في اللحظات الأخيرة إيجابياً بالنسبة إلى الحرية الأكاديمية، لكن من الواضح أن الدولة تُركّز بدرجة خطيرة على النزعة الإيديولوجية التي تتخذها الأبحاث في فرنسا اليوم. إشتكى وزير التربية الفرنسي جان ميشال بلانكيه من تأثير النظرية العرقية النقدية الأميركية على العلوم الاجتماعية الفرنسية، فلامها على إضعاف النزعة العالمية التي تتبناها فرنسا من دون التمييز بين الناس على أساس العرق أو الانتماء الإثني، واعتبر أنها تضمن بيئة مريحة لحركة "اليسار الإسلامي". يلوم هذا المصطلح الذي ابتكره اليمين الفرنسي المتطرف المفكرين التقدميين على تغذية الإسلام السياسي الراديكالي من خلال عملهم على مواضيع العنصرية البنيوية والإسلاموفوبيا. في هذا السياق، يقول بلانكيــــه ساخراً: "الفشل يبدأ من رأس الهرم"! يهدف جزء آخر من التشريع، وهـو عبـارة عن مـشروع قانون حـــول الأمن العالمي طُرِح في 17 تشرين الثاني، إلى توسيع هامش حرية الشرطة. يحظى هذا المشروع بدعمٍ صريح من وزير الداخلية الفرنسي اليميني جيرالد دارمانان الذي أعلن في الأسبوع الماضي أن "سرطان المجتمع الحقيقي هو غياب الاحترام تجاه السلطة".


اعتقال صحافيّيْن يغطيان احتجاجات ضد مشروع القانون


إنه تعليق صادم بما أن أكثر من 49 ألف فرنسي خسروا حياتهم هذه السنة بسبب فيروس "كوفيد - 19" ومن المتوقع أن يغرق أكثر من 10 ملايين آخرين في الفقر في نهاية كانون الأول. يحمل بندان من بنود مشروع القانون نقاطاً مثيرة للقلق. يُجرّم أحدهما نشر أو تقاسم صور عناصر الشرطة على مواقع التواصل الاجتماعي إلا إذا كانت ملامحهم مبهمة، حتى أنه يمنع البث المباشر والتقارير الاستقصائية ومحاسبة المواطنين للشرطة على انتهاكاتها.

أما البند الثاني، فهو يمنع استعمال كاميرات "درون" لتصوير المواطنين في الأماكن العامة ويسمح للكاميرات العادية التي يحملها رجال الشرطة بفتح بث مباشر أمام السلطات المعنية. أثار مشروع القانون غضب الصحافة الفرنسية وزاد قلقها من الوضع القائم، حتى أن الأمم المتحدة وجمعية الدفاع عن الحقوق الفرنسية المستقلة ومنظمة العفو الدولية أدانت ذلك الطرح.

يوم الأربعاء الماضي، غداة إقدام الشرطة على اعتقال صحافيَّين قاما بتغطية احتجاج ضد مشروع القانون، نصح دارمانان الصحافيين الذين يريدون تجنّب هذا المصير بتعريف أنفسهم أمام إدارة الإقليم المحلي قبل التوجه إلى أي تظاهرة. أثارت فكرة أن يضطر الصحافيون لأخذ إذن مسبق من مسؤولين حكوميين قبل تغطية الأحداث سخطاً عارماً، لدرجة أن يضطر دارمانان سريعاً إلى تعديل موقفه بدرجة بسيطة. لكن كتب مدير تحرير صحيفة "لوموند" جيروم فينوغليو يوم الجمعة أن الحل الوحيد يقضي بإلغاء ذلك البند بالكامل. تكلم فينوغليو عن الاعتداءات المتزايدة من ماكرون وحكومته ضد الصحافة، بما في ذلك لوم مواقع الأخبار الناطقة باللغة الإنكليزية (مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست") على "تشريع هذا النوع من العنف"، ثم عدّد جزءاً من انتهاكات الشرطة التي فضحها المواطنون العاديون. لكن سرعان ما ذهبت هذه المواقف أدراج الرياح: انتهى النقاش حول مشروع القانون في وقتٍ متأخر من يوم الجمعة الماضي ويكاد يُطرَح على التصويت الآن أمام الجمعية الوطنية الفرنسية. بعبارة أخرى، يمكن توديع مبدأ "الحرية" الذي يشكّل جزءاً أساسياً من شعار فرنسا الوطني: "حرية، مساواة، أخوة". يجازف مشروع القانون إذاً بتحويل فرنسا إلى دولة مراقبة، ما يعني انتهاك حق المواطنين بالخصوصية مباشرةً وحماية الشرطة من محاسبة المواطنين أو الصحافة.





وكأنّ هذا الوضع لم يكن سيئاً بما يكفي! يهدف مشروع قانون ثالث إلى تحقيق رؤية ماكرون لمعالجة الراديكالية الإسلامية، أي تلك التي حدّدها في خطابه حول "الانفصالية" في 2 تشرين الأول، ومن المقرر أن تُراجعه حكومته في 9 كانون الأول. يحمل مشروع القانون اسم "تأكيد المبادئ الجمهورية" وهو يعطي جميع الأولاد الفرنسيين رقم تتبّع لضمان حضورهم الإلزامي في المدراس الرسمية أو تلك المعترف بها من الحكومة، ما يعني وضع حدّ للتعليم المنزلي والمدارس الدينية غير المعترف بها والحرص على تعليم جميع الأولاد قيم الجمهورية الفرنسية. كذلك، يُجرّم مشروع القانون تقاسم المعلومات حول الموظفين الحكوميين وتسهيل استعمالها لإلحاق الضرر بهم: إنه ردّ على ما حصل مع باتي لأن معلوماته الخاصة انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما سمح لقاتله بتعقبه. يعاقب القانون مرتكبي هذه الجنحة الجديدة بالسجن لمدة تصل إلى ثلاث سنوات وتفرض عليهم دفع غرامة بقيمة 45 ألف يورو. ويُجرّم بند آخر "التهديد أو العنف أو الترهيب بحق أي مسؤول حكومي لأسباب مشتقة من القناعات أو المعتقدات" ويعاقب عليها بالسجن حتى خمس سنوات. لكن يخشى خبراء القانون أن تكون الكلمات المستعملة في هذا البند مبهمة بما يكفي لإدانة الناس على أي انتقاد مبرّر للموظفين العموميين.

من الواضح أن فرنسا أصبحت اليوم دولة محاصرة ومتألمة. ومن المتوقع أن تتفاقم الاضطرابات والانقسامات بسبب ارتفاع نسبة البطالة الجماعية، والإحباط المرتبط بتدابير الإقفال التام لمكافحة فيروس "كوفيد - 19"، والمخاوف الناجمة عن تجدد الاعتداءات الإرهابية. هذه العوامل كلها تشكّل ظروفاً إيجابية طبعاً لزعيمة اليمين الشعبوي المتطرف مارين لوبان، وهي منافِسة ماكرون الأوفر حظاً على الأرجح في الانتخابات الرئاسية للعام 2022. يبدو أن استراتيجية ماكرون ترتكز على ثلاثة مبادئ: فرض نظام صارم وتحضير الآليات اللازمة لإخماد أي احتجاجات حاشدة؛ وكبح التقارير النقدية في الصحافة؛ واستعمال جزء من لغة اليمين المتطرف وسياساته لسرقة ما يكفي من الناخبين والنجاح في هزم هذا المعسكر. في غضون ذلك، بدأت الحرية التي يدافع عنها ماكرون بكل قوة والتي ضحّت فرنسا بالكثير من أجلها تتلاشى بموجب التشريعات المستجدة، ما يعني أن أي زعيم مستقبلي ذي ميول استبدادية إضافية سيَرِث مجموعة قوية من الأدوات المناهضة للديموقراطية.


MISS 3