يوجين شوسوفسكي

مستقبل المواجهة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا

4 كانون الأول 2020

المصدر: Center For International Policy

02 : 01

لطالما كانت المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا جانباً أساسياً من النظام العالمي ومن المتوقع أن تزداد أهميتها مع وصول إدارة أميركية جديدة إلى الحُكم في العام 2021. ونظراً إلى طبيعة هذه المواجهة العالمية والمتداخلة (تشمل الدول السوفياتية السابقة والشرق الأوسط واتفاقيات الحد من التسلح)، سيترافق تطور العلاقات بين واشنطن وموسكو مع تداعيات بارزة حول العالم. تحمل الدول عموماً مصالح متضاربة ونطاقات نفوذ متشابكة، لكن تبرز أيضاً مجالات محورية من المصالح المشتركة، على رأسها احتواء النفوذ الصيني المتنامي، وتضمن هذه المسائل توسيع التعاون مستقبلاً. من مصلحة الولايات المتحدة استراتيجياً أن تقيم التوازن المطلوب في علاقتها مع روسيا والصين منعاً لزيادة التقارب بين البلدَين.

فيما عمدت الولايات المتحدة إلى زيادة الضغوط الاقتصادية والأمنية على روسيا في آخر ست سنوات، أعادت موسكو من جهتها هيكلة سياستها الخارجية بعيداً عن الغرب واتجهت نحو الشرق. شملت هذه المقاربة توسيع العلاقات الاقتصادية والأمنية المتزايدة أصلاً مع الصين وتعميق التدخّل في مجالات تحمل مصالح استراتيجية مهمة للولايات المتحدة، لا سيما في الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى حول العالم.

كثّفت موسكو نشاطاتها في ساحات كثيرة، فأطلقت جهوداً ديبلوماسية للعب دور الوساطة بين حركة "طالبان" والحكومة الأفغانية (حتى أنها زوّدت "طالبان" بالأسلحة وفق بعض الادعاءات) ووقّعت مجموعة كاملة من الاتفاقيات العسكرية والتقنية في إفريقيا. كذلك، وسّعت روسيا حملاتها الدعائية ومعلوماتها المُضلِّلة وتكتيكاتها في الحرب الإلكترونية المحتدمة لنشر الفوضى وتأجيج الانقسامات السياسية في أنحاء الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة.

في غضون ذلك زادت واشنطن ضغوطها على موسكو، فوسّعت العقوبات وكثّفت دعمها العسكري لحلفائها المُعادين لروسيا. ومقابل التعزيزات العسكرية التي قامت بها موسكو والتطورات العسكرية المتزايدة التي حققتها الصين، تخلّت الولايات المتحدة أيضاً عن اتفاقيات الحد من التسلح مع روسيا، منها "معاهدة القوى النووية متوسطة المدى" وقد تعيد الكرّة مع معاهدة "ستارت الجديدة" التي تنتهي صلاحيتها في العام 2021.

رغم هذه المصالح المتضاربة كلها، تبرز في المقابل مصالح مشتركة مهمة بين البلدين، أبرزها الإرهاب العابر للحدود الذي يشكّل منذ وقت طويل محركاً للتعاون الثنائي، إذ يواجه البلدان تهديدات واضحة من جماعات مثل "القاعدة" و"داعش". كانت روسيا من أوائل الدول التي دعمت الولايات المتحدة بعد اعتداءات 11 أيلول، وقد أثبتت موسكو دورها المحوري في تسهيل عمليات واشنطن وحلف الناتو في أفغانستان عبر "شبكة التوزيع الشمالية" التي تمرّ بروسيا والدول السوفياتية السابقة. تَفكّك ذلك الاتفاق اللوجستي في نهاية المطاف بسبب التوتر السياسي المتزايد وما اعتبرته موسكو تدخلاً أميركياً مفرطاً في آسيا الوسطى، لكنه يشير في مطلق الأحوال إلى استمرار هذه المصلحة المشتركة لمحاربة الإرهاب العابر للحدود بأشكال متنوعة حتى هذا اليوم.

في الفترة الأخيرة، جاء وباء "كوفيد - 19" ليسلّط الضوء أيضاً على أهمية التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا. في شهر نيسان الماضي، ظهرت تقارير مفادها أن واشنطن تلقّت شحنة من أجهزة التنفس الاصطناعي من شركة التكنولوجيا الروسية "كريت"، وهي فرع تابع للمجموعة الروسية "روستيك" الخاضعة للعقوبات الأميركية. وبعد مكالمة هاتفية مباشرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عُقِد اتفاق يسمح للولايات المتحدة بشراء تلك الأجهزة من الحكومة الروسية مباشرةً لتجنب التعامل مع الشركة الخاضعة للعقوبات. أثبتت هذه الخطوة استعداد واشنطن لزيادة مرونتها في سياسة العقوبات التي تعتمدها تجاه روسيا حين تفرض عليها مصلحتها الوطنية هذا التوجه. إنه إثبات آخر على احتمال تكثيف التعاون بين البلدين خدمةً لمصالحهما المشتركة في مجالات مثل الصحة العامة رغم وفرة العوائق القائمة.

على المدى الطويل، قد تبقى الصين النقطة المشتركة الأبرز بين الطرفين. تشكّل بكين شريكة اقتصادية وأمنية بارزة لروسيا في الظروف الراهنة، لكنها تطرح في الوقت نفسه تهديداً طويل الأمد على موسكو في مناطق متعددة، بما في ذلك آسيا الوسطى وشرق سيبيريا والقطب الشمالي. ستتضح هذه التهديدات إذا استمر تنامي النفوذ الصيني في تلك المناطق بفضل "مبادرة الحزام والطريق" ومشاريع استراتيجية أخرى، مثلما يزيد احتمال أن تتراجع قدرة موسكو على فرض نفوذها بسبب نقاط ضعفها الاقتصادية البنيوية والتراجع الديمغرافي الذي يلوح في الأفق. لهذه الأسباب، قد يطرح الصعود الصيني المستمر تحديات بارزة على روسيا مستقبلاً بقدر ما يسبّب مشكلة للولايات المتحدة اليوم.





توصيات سياسية

تواجه واشنطن الآن تحديات عدة بسبب البيئة العالمية الراهنة، بما في ذلك تفشي وباء "كوفيد-19" والركود العالمي المرتبط به وتنامي نفوذ الصين، ومع ذلك تضمن هذه الظروف فرصاً مهمة لتحسين العلاقات الأميركية مع روسيا بما يصبّ في مصلحة الولايات المتحدة الاستراتيجية. على المدى القصير، من المستبعد أن تتلاشى المواجهة القائمة مع روسيا، ومن المتوقع أن تتعقد العلاقات بين موسكو وواشنطن بدرجة إضافية بسبب تدخّل روسيا في الانتخابات الأميركية عبر الاعتداءات الإلكترونية أو حملات التضليل المتواصلة. كذلك، زادت جرأة روسيا نتيجة المقاربة القومية التي اتخذتها الولايات المتحدة وتركيزها على شؤونها الداخلية في السنوات الأخيرة، وقد شملت هذه الاستراتيجية تخفيض أعداد القوات العسكرية في مناطق متعددة مثل سوريا وأفغانستان.

لكن لن تُزعزع هذه التطورات الأخيرة بالضرورة المشهد الاستراتيجي العام للبيئة الخطيرة التي تواجهها الولايات المتحدة. على المدى الطويل، من المتوقع أن تصبح الصين في مكانة متقدمة تسمح لها بملء فراغ السلطة الذي خلّفته الولايات المتحدة أكثر من روسيا، وقد يؤدي هذا الوضع وعوامل أخرى إلى كبح النزعة الأميركية إلى التركيز على شؤونها الداخلية حصراً. لكن تتعلق المسألة الأساسية الآن بمدى استعداد واشنطن للاعتراف بهذا الرابط الناشئ بين القوى الجيوسياسية وهو في مراحله الأولى أو انتظارها إلى أن يتطور ذلك الرابط ويفوت الأوان على التعامل معه. لهذا السبب، يجب أن تسعى الاستراتيجية الأميركية إلى تقليص العوامل المثيرة للاضطرابات في مواجهتها مع روسيا، تزامناً مع محاولة تعزيز التعاون مع موسكو في المجالات التي تحمل مصالح مشتركة للبلدَين، ما يسمح لهما بمواجهة مختلف التحديات المطروحة.

لطالما كانت العقوبات الاقتصادية والتعزيزات العسكرية والأمنية جزءاً من الأدوات الأولية التي تستعملها الولايات المتحدة لتحدّي روسيا في هذه المواجهة الثنائية. يُفترض أن تتابع واشنطن استخدام هذه الأدوات، لكن يجب أن تتوقف قوتها على درجة استعداد موسكو للتعاون مع واشنطن، ويتوقف هذا القرار جزئياً على الوضع الاقتصادي والسياسي المحلي في روسيا. على سبيل المثال، قد تزداد قوة العقوبات الأميركية (لم تشكّل حتى الآن عاملاً مؤثراً لكبح السلوك الروسي) خلال أي أزمة اقتصادية عميقة ومطوّلة. وبحسب مستوى الأضرار الاقتصادية التي تواجهها روسيا، لا سيما في قطاع الطاقة غداة انهيار أسعار النفط العالمية الذي يسيء إلى الاقتصاد الروسي أكثر من العقوبات وفي ظل التوقعات بتراجع هذا القطاع والانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة على المدى الطويل، قد تبدي موسكو استعدادها لإحداث تعديلات إضافية في عملياتها في أوكرانيا، وسوريا، وفنزويلا، وساحات أخرى تُعتبر أساسية بالنسبة إلى المصالح الأميركية، لتجنب أي عقوبات إضافية. لكن تجدر الإشارة إلى أن روسيا كثّفت نشاطاتها وعملياتها في الخارج حتى الآن رغم زيادة العقوبات الأميركية.

على صعيد آخر، تستطيع واشنطن أن تستفيد من أي تعديلات تطاول العقوبات أو تؤثر على مكانتها الأمنية مقارنةً بروسيا من خلال تعاملها مع الصين. تفاقمت المواجهة الراسخة بين واشنطن وبكين بسبب ظهور فيروس "كوفيد - 19" في الصين أولاً وانتقاد الولايات المتحدة لطريقة تعامل بكين مع مسلمي الإيغور في "شينجيانغ"، وسرعان ما مهّدت تلك المواجهة لإعادة تقييم العلاقات الأميركية الصينية على مختلف المستويات، بدءاً من التكنولوجيا والتبادلات التعليمية وصولاً إلى سلاسل الإمدادات. وقد يؤدي أي تآكل إضافي للروابط التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى تفاقم التوتر الجيوسياسي بين البلدين في مناطق حساسة مثل هونغ كونغ وبحر الصين الجنوبي، وهذا ما يزيد أهمية روسيا للولايات المتحدة باعتبارها ثقلاً موازناً للصين.

قد يؤدي هذا الوضع في المقابل إلى إعادة تقييم تداعيات تقوية المحور الروسي الصيني، علماً أن هذا الجانب يُعتبر من أبرز التهديدات الجيوسياسية المطروحة على الولايات المتحدة راهناً. من المستبعد طبعاً أن تتخلى روسيا عن تعاونها مع الصين بالكامل على المدى القريب أو المتوسط، وستحاول بكين حتماً أن تحافظ على روابط قوية مع موسكو في ظل تصاعد خلافاتها مع واشنطن. لكن قد تتغير حسابات موسكو حين تتراكم التحديات الاقتصادية التي تواجهها وتتضاعف قدرة بكين على فرض قوتها في نطاقات النفوذ المتداخلة. نتيجةً لذلك، قد يسمح ضعف الوضع الاقتصادي والتركيز على المصالح المشتركة في مجالات مثل مكافحة الإرهاب العابر للحدود بتعزيز التعاون بين واشنطن وموسكو في قطاعات غير متوقعة.

قد يترافق الوضع الراهن مع تحديات كبرى على الولايات المتحدة إذاً، لكن تُقدّم العوامل المرتبطة بالضرورات الجيوسياسية التي تَهُمّ واشنطن على المدى الطويل فرصاً مناسبة لتخفيف التوتر وزيادة التعاون مع روسيا تزامناً مع تحسين مكانتها الاستراتيجية أمام الصين.