جولي مراد

"المعلّم" سليم

5 كانون الأول 2020

02 : 00

وجدته هناك ذات يوم، في صفي الذي ضمّ معه تلميذاً آخر. وصلتُ الى مملكتي باكراً. كان جالساً على كرسيّ خشبي، مكفهر الوجه بسحنةٍ تدلّ على غضب شديد. "يرسلونني الى صفّ الانكليزية وأنا لا أفكّ حرفاً بالعربية! الآن بعدما غزا الشيبُ نصف شعري! مجانين!!!"، صاح بامتعاض.

زميله على مقاعد الدراسة بادر بابتسامةٍ مرتبكة: "ميشال. اسمي ميشال"، معرّفاً عن نفسه باقتضاب. وتابع بصوتٍ متهدّج: "أتحضّر للسفر الى الولايات المتحدة. أعرف بعض الانكليزية ولكني أحتاج الى تعزيز قدراتي ومستعدّ لبذل كلّ ما أمكن من جهود". "طريقي سالكةٌ معه إذاً"، قلتُ في سري. و"حضرتك؟ شو اسمك؟"، سألت الممتعض محدّقة مباشرةً في عينيه "سليم. أنا سليم تحومي"، تمتم بصوتٍ خافت، مشيحاً بنظره الى بعيد وكأنه يأبى الوصال.

يداه المتسختان بزيوتٍ قاتمة وأظفاره بسواد معلّمي الصنعة أخبرتني أنه روّض آلاف السيارات متربّعاً على عرش "الميكانيك" بلا منازع. أدركت فوراً أنّ الخمسينيّ سيكون نصري الجديد، غنيمتي في زمن شحّت فيه نوادري. وكنتُ منذ أبحرت في عباب التعليم أرنو بكل جوارحي الى تولّي الحالات المستعصية. شيء ما في انكسار الضعيف أشبه باستغاثةٍ مكبوتة تدفعني الى تلبية النداء كجنديّ يأبى سقوط فردٍ من شعبه. لا لذة تضاهي تلك التي كنت أعيد فيها تشكيل حياة فردٍ، محوّلة مسارها من منعرجٍ لا يفضي الى مكان، الى خطٍ مستقيم بأفقٍ مفتوح على أكثر من احتمال وكأنني أسهم في الخلق.

"لك أن تقرر كيف تمضي مدّة حكمك. إما أن تعاند فنحيا معاً جحيم متنافريْن سُجنا في الزنزانة نفسها أو أن ترفع لي فوراً رايتك البيضاء فنبحر معاً نحو دنيوات أخرى بعيداً عن روتينك المعتاد... لا جدوى من محاربة القدر... go with the flow Salim"... خاطبته وأنا أربتُ على كتفه داعية إياه للسير مع التيار وليس عكسه. "ما رح يطلع منّي ولا حرف! يا عمّي أنا لا بعرف إقرا ولا اكتب! مش رايح عالمدرسة!" عاجلني القول بسخطٍ.

وسرعان ما أذعن سليم لتعليماتي حين أيقن أنّ خياراته تقتصر على احتمالٍ واحد: أن يغادر عالمي ناطقاً بالانكليزية. كان "ملكاً" في ميدانه ولكني الآمر الناهي في ساحتي. وكان لي ما شئتُ خصوصاً حين سافر زميله ميشال لبعض الوقت بما يكفي لادخاله عالم الحروف، متكئةً في مهمّتي على محيطه المألوف وأسماء زملائه التي كنت أمرّنه على كتابتها فرداً فرداً. وهكذا شهدت لأشهرٍ ولادته مع كلّ حرفٍ. ولمحتُ في عينيه دمعةً أبت الافلات من عقالها حين كتب بجدارةٍ أسماء ذريّته على اللوح وأتبعها بعبارة "أحبّ بناتي" بالانكليزية. كانت جمله كلّها تتمحور حول بناته حصراً: راشيل، مابيل وجويل. دروسي معه كانت حصصاً حول قصصهنّ، حكاياتهنّ اليومية، شغلهنّ الشاغل، همومهنّ المراهقة وأطباقهنّ المفضلة...

وكان سليم عصياً على التقليديّ. لم تنل قساوة الحياة من طيب قلبه. دائم الابتسام يرقص فرحاً لأبسط الأمور.علّمتُه آداب التواصل فردّني الى الحياة ببساطتها وجوهرها الدفين بعيداً عن التصنّع. ولسليم إلهٌ عطوفٌ رحوم أنقذه من الويلات أكثر من مرة. كان شديد الإيمان بقدرته على تغيير المسار والمصير: "كلّما رغبت بأمرٍ استنجد به. أتضرّع إليه للسهر على أحبائي وسيمنحك ذات يومٍ على قدر نيّتك لأنّك تستحقين الارتقاء نحو أرقى المناصب وستفعلين"، قال لي في إحدى الحصص بابتسامةٍ عريضة.

وذات أسبوع تلقّيت اتصالاً كئيباً يعلمني بأنّ وعكةً نالت من سليم على حين غرّة. صارعها لأسابيع، هو من كان يخبرنا بفخرٍ عن قتاله على جبهات الحرب ببسالة. سقط عليّ خبر رحيله كالصاعقة وكنت ما تعافيتُ بعد من هول انفجار 4 آب وتداعياته النفسية المتمادية منذ ما يربو على شهرين. آلمني هذا الغياب في زمنٍ حرّم فيه فيروس قاتل على الاقارب والمعارف الالتفاف حول ضريح الأحباء في لحظة وداع أخير. حتى برحيله المباغت أعطاني سليم درساً قاسياً. "لا تغرقي بقشور الحياة فتدعيها تسرق منك الثمين بعملٍ مضنٍ يلهيك عن الأساسي. الحياة قصيرة يا جولي لن تمنحك ترف البقاء"، كان ينبّهني كلّما شعر بأنّني أكدح أكثر من اللازم.

الشمس الساطعة تتكبّد السماء. أعود أدراجي من حيث مُنِحت للتوّ أملاً بتغيير مساري نحو آفاقٍ أكثر رحابة. ألتفتُ الى أعلى. غيومٌ تتراءى بشكلٍ بشري. لمحتُ فيها وجهاً مألوفاً. حدّقت فيها طويلاً وأنا أمشي بخطواتٍ متسارعة: "هيدا انت يا سليم؟ عملتا يا سليم؟" تخيّلته هناك جنب إلهه عاكفاً على ليّ ذراع قدري بما يكفي لسيري على طريق مستقيم. اعجبتني الفكرة.... رسمت على شفتي ابتسامةً كبيرة... كيف لا ابتســـمُ لملاكٍ حارس؟