دانيال نيكسون

الخوف من شعبوية ترامب قد يُنقذ التحالفات الأميركية

5 كانون الأول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

تواجه الولايات المتحدة التي سيستلمها الرئيس المُنتخب جو بايدن في 20 كانون الثاني أزمة مصداقية. بعد أربع سنوات من التصرفات غير المتوقعة في عهد الرئيس دونالد ترامب، بات المجتمع الدولي يعتبر الولايات المتحدة قوة غير موثوق بها. وحتى أقرب حلفاء واشنطن وأقدمهم ما عادوا مقتنعين بأنهم يستطيعون الاتكال على الدعم الأميركي الديبلوماسي أو العسكري.

لا يستطيع بايدن أن يعالج الأضرار التي طاولت المصداقية الأميركية بسهولة. لكنه قادر على تقوية التحالفات والعلاقات الأمنية الأميركية. تكمن المفارقة في واقع أن ترامب سهّل هذه المهمة على الرئيس المقبل. فقد أثبت وصوله إلى السلطة أن مسائل الإنفاق الدفاعي الجماعي وتقاسم الأعباء (إنها نقاط عالقة منذ فترة طويلة في العلاقات العابرة للأطلسي) تستطيع تأجيج المشاعر الشعبوية وتهديد التحالفات القديمة. يجب أن تستعمل إدارة بايدن ذلك التهديد إذاً واحتمال ظهور شعبوي آخر مثل ترامب لبناء علاقات أمنية أكثر إنصافاً. في النهاية، ستواجه دول مثل فرنسا وألمانيا وأستراليا وكوريا الجنوبية مستقبلاً خطيراً وغير مؤكد في حال استمر تدهور التدابير الأمنية الأميركية.

تتعدد الدروس التي يمكن استخلاصها من عهد ترامب، منها التهديد الحقيقي الذي يطرحه الخلاف حول تقاسم الأعباء على العلاقات العابرة للأطلسي، لا سيما في مجال الإنفاق الدفاعي. في العام 2006 ثم 2014، التزم أعضاء حلف الناتو بإنفاق 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على القدرات العسكرية، لكن طبّق أقل من نصفهم هذا المبدأ. خلال الحملة الانتخابية في العام 2016، هاجم ترامب حلفاء الناتو لأنهم فشلوا في تطبيق واجباتهم على مستوى الإنفاق، حتى أنه ذهب إلى حد التشكيك بصوابية أن تدافع الولايات المتحدة عنهم في حال استهدفهم أي هجوم روسي. وحين وصل ترامب إلى سدة الرئاسة، تابع التذمر من إخفاقات حلفاء الناتو في مجال الإنفاق للضغط عليهم ودفعهم إلى توسيع ميزانياتهم العسكرية وتأمين الموارد لدفع النفقات الأميركية. ثم كشف استطلاع نشره مركز "بيو" للأبحاث أن نصف الأميركيين تقريباً في العام 2017 باتوا مقتنعين بأن حلف الناتو لا يبذل جهوداً كافية لحل المشاكل العالمية.



ترامب مع جمهوره في مارشال تاون، أيوا (أرشيف)



من المستبعد أن تتلاشى هذه المسألة قريباً. يجب أن يقنع بايدن أبرز الحلفاء الديموقراطيين، مثل فرنسا وألمانيا، بإحراز تقدم كبير لجعل ميزانياتهم الدفاعية تتماشى مع الالتزامات المتفق عليها. قد يحتجّ بعض حلفاء الولايات المتحدة حتماً أو يصرّ على المماطلة، لكن تملك إدارة بايدن أوراق ضغط مهمة. على عكس باكستان مثلاً، لا يريد الشركاء الديموقراطيون الليبراليون اللجوء إلى روسيا أو الصين للحصول على ضمانات أمنية، كما أنهم لن يتمكنوا من الاتكال على أنفسهم في أي وقت قريب.

يعني هذا الوضع المضطرب أن الحلفاء الأوروبيين يجب أن يكونوا مستعدين لتعويم إدارة بايدن منذ اليوم الأول. ويجب أن تنتهي تلك النزعة القديمة إلى التهرب من مسؤوليات الإنفاق الدفاعي لدى الشركاء (كانوا يخبرون المسؤولين الأميركيين حيناً بأن أفضل حل يقضي بالضغط عليهم علناً، ويصرّون أحياناً على إقناعهم بأهمية هذه الخطوة في أوساطهم الخاصة). يمكن اعتبار اقتراح برلين الأخير بداية قوية في هذا الاتجاه، فقد طرحت "اتفاقاً جديداً" حول تقاسم الأعباء حيث تزيد ألمانيا مستوى إنفاقها بدرجة ملحوظة، ما يسمح لها بقيادة العمليات العسكرية الخارجية من دون الولايات المتحدة، كما أنها قررت في الفترة الأخيرة اتخاذ تدابير صارمة ضد شركة الاتصالات الصينية "هواوي". لكن يجب أن يقنع بايدن ألمانيا بالذهاب أبعد من ذلك: تقضي خطوات مثمرة أخرى في المرحلة المقبلة بإلغاء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يربط بين روسيا وأوروبا وتعديل مواقف برلين من روسيا والصـين كي تتماشى مع مواقف واشنطن.

كذلك، يجب أن يضغط بايدن على فرنسا لزيادة إنفاقها الدفاعي بما يضمن بلوغ عتبة 2% التي حددها حلف الناتـــو أو تجاوزها، وتقويـــة مواقفها المستنكــرة للأعمال العدائية التي تقوم بها روسيا في أوكرانيا ودعمها للشعبويين الرجعيين ومحاولاتها تخريب الديموقراطيات الغربية. في المقابل، يستطيع بايدن أن يعرض على الحلفاء الأوروبيين دعماً كاملاً لتوثيق العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتوسيع التعاون العابر للأطلسي، وتقديم الدعم الأميركي اللازم لإنشاء مقر عسكري أوروبي مستقل يستطيع تنسيق جهوده مع الناتو عن قرب.

بما أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سبق ودعا إلى زيادة حجم الإنفاق العسكري منذ الانتخابات الأميركية، يُفترض أن يختلف تعامل بايدن مع المملكة المتحدة قليلاً ويهدف إلى تهدئة الزخم الشعبوي المتزايد في ذلك البلد. أدت خطة "بريكست" إلى تضرر اقتصاد بريطانيا ومكانتها الدولية وتطرح تداعيات هذا الوضع تهديداً على المصالح الأميركية والأوروبية معاً. لهذا السبب، يجب أن يؤكد بايدن بكل وضوح على عدم نشوء أي "علاقة مميزة" أو اتفاقيات تجارية خاصة بين الطرفين ما لم توافق لندن على تدبير مُرافِق لخطة "بريكست" يضمن التمسّك ببنود "اتفاق الجمعة العظيمة" في إيرلندا الشمالية ويحافظ على تقارب وثيق بين المملكة المتحدة وبقية دول أوروبا.

لا يتهرب الحلفاء الديموقراطيون في آسيا من أعبائهم العسكرية بقدر الدول الأوروبية عموماً، ومع ذلك يجب أن تسعى إدارة بايدن إلى تحقيق بعض المكاسب المبكرة في منطقة المحيط الهادئ. ستكون أي اتفاقيات حول دعم القواعد العسكرية الأميركية في اليابان وكوريا الجنوبية بداية جيدة لهذه الجهود. على إدارة بايدن أن تشدّد أيضاً على سلبيات تدهور العلاقات بين هذين البلدين لتبرير الوجود الأميركي في شمال شرق آسيا.

يُفترض أن تكون هذه المبادرات في أوروبا وآسيا جزءاً من جهود أوسع تبذلها إدارة بايدن لحماية شبكات تحالفاتها من تأثير ترامب. يثبت صمود هذا النظام في آخر أربع سنوات أهمية العلاقات المؤسسية بين الوزارات والإدارات عالمياً. رغم تهديد ترامب بالتخلي عن حلفاء الولايات المتحدة، تابع المسؤولون الأميركيون العسكريون والمدنيون التعاون مع نظرائهم في الخارج. هذه الشبكات الاحترافية صعّبت على ترامب إنهاء الالتزامات الأمنية الأميركية بسرعة وأنقذت على الأرجح عدداً كبيراً من الاتفاقيات الأخرى.

كجزءٍ من هذه الخطة الواسعة، يجب أن تقوي الولايات المتحدة علاقاتها مع الحكومات الأخرى، لا سيما في الدول الأوروبية الحليفة. كذلك، يُفترض أن يطوّر حلف الناتو قدراته المدنية كي يتمكن من تكليف الاتحاد الأوروبي بمهام إعادة الإعمار وتجديد الاستقرار بعد الصراعات. في المقابل، يجب أن ينشئ الاتحاد الأوروبي قوته العسكرية الخاصة أخيراً على أن تكون متواضعة لكن قابلة للانتشار على نطاق واسع وقادرة على التعامل مع الأزمات الأمنية المجاورة. تستطيع ألمانيا وفرنسا تحديداً أن تقودا هذه العملية كجزءٍ من اقتراحهما حول إصلاح العلاقات العابرة للأطلسي وإعادة إحيائها.

على صعيد آخر، يجب أن تتناقش الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين حول تنظيم المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة والدوريات الجوية التي تشمل عدداً إضافياً من المعدات والعناصر. في الوقت نفسه، يجب أن يزيد الطرفان الأعداد المتناوبة من القوات الأميركية والمتحالفة في أوروبا الوسطى ويرفعا عدد المسؤولين الأميركيين في المقرات السياسية والعسكرية التابعة لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. ستقوي هذه الخطوة العلاقات بين صانعي السياسة المتحالفين وتُجدّد تركيز الولايات المتحدة على أوروبا.

أخيراً، يجب أن يتجه بايدن في أول رحلة خارجية له إلى بروكسل لعقد قمة مشتركة غير مسبوقة بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في الربيع المقبل، على أن تليها رحلة إلى طوكيو في الخريف لعقد اجتماع مع الحلفاء الآسيويين الديموقراطيين، ثم قمة مشتركة أخيرة تشمل الشركاء من أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ في بداية العام 2022. في الماضي، كانت الولايات المتحدة تفضّل الحفاظ على مسافة معينة بين حلفائها في هاتَين المنطقتَين. لكن تبدو هذه المقاربة بالية اليوم في عصر التكامل الاقتصادي والتحديات الأمنية العالمية والعضوية المشتركة في النظام الأمني الأميركي.

صدمة شعبوية مقبلة؟

من دون إحراز تقدّم علني وسريع خلال السنوات الأربع المقبلة، ستبقى شبكة التحالفات الأميركية، لا سيما في أوروبا الغربية، هشة ومعرّضة لموجة شعبوية أخرى. لحماية تلك التحالفات والشراكات من تأثير "الترامبية"، يجب أن يبذل شركاء الولايات المتحدة جهوداً كبرى تفوق ما يتوقعونه. وفي مفارقة ساخرة، يبدو أن مصير النظام الأمني الأميركي سيتوقف على طريقة تجاوب حلفاء الولايات المتحدة مع إدارة بايدن وتصرفات هذه الإدارة الأميركية في الوقت نفسه.

منذ بداية عهد بايدن، يجب أن يدرك حلفاء الولايات المتحدة الديموقراطيون، لا سيما في أوروبا، أن العودة إلى وضع المراوحة السابق يعني المجازفة بنشوء صدمة شعبوية جديدة قد تؤدي إلى تفكيك النظام القائم في نهاية المطاف. بعبارة أخرى، يملك بايدن أوراق ضغط مؤثرة في أي مفاوضات تهدف إلى إصلاح العلاقات القديمة. أدت مقاربة "أميركا أولاً" التي اعتمدها ترامب إلى جعل العالم مكاناً أكثر خطورة مما كان عليه، لكنّ تداعياتها انعكست على شركاء الأميركيين بدرجات متفاوتة ولم تؤثر على الولايات المتحدة بحد ذاتها. هذا الوضع يشجّع دولاً مثل فرنسا وألمانيا على إثبات نجاح المقاربات المبنية على تكثيف التعاون في المجالات التي فشلت فيها مقاربة ترامب الصدامية.

لكن لن يكون تغيير العادات القديمة سهلاً بأي شكل. إذا فضّل الحلفاء الديموقراطيون الاكتفاء بوضعهم الحالي، يجب أن تُذكّرهم إدارة بايدن بأن الضمانات الأمنية الأميركية أصبحت على المحك. لم ينشأ هذا الوضع الشائك لأن بايدن لا يُقدّر أهمية تلك الضمانات بل لأن الرئيس الأميركي اللاحق قد لا يعرف قيمتها بقدره.