جيم غولبي

ترامب يزيد الوضع سوءاً في أفغانستان

8 كانون الأول 2020

المصدر: The Atlantic

02 : 01

لم يستطع الرئيس دونالد ترامب منذ وصوله إلى سدة الرئاسة أن يحسم قراره حول صوابية أن تتابع الولايات المتحدة القتال في أفغانستان. يتّضح هذا التخبط أيضاً في قراره الأخير بتخفيض عدد الجنود الأميركيين عشوائياً هناك بحلول 15 كانون الثاني. بدل إنهاء "الحرب اللامتناهية" في ذلك البلد، يبدو أن ترامب سيزيد المخاطر المطروحة على القوات المتبقية التي تشمل 2500 عنصر. كان الوضع سيئاً أصلاً هناك، لكن زاده ترامب سوءاً وها هو يستعد لنقل المشكلة إلى الرئيس المُنتخب جو بايدن.

يطرح ترامب نفسه كصانع صفقات بارع وقد خاض حملته الانتخابية في العام 2016 (ثم في العام 2020) على أساس إنهاء الحرب التي بدأت في العام 2001. لكنه عاد وسمع نصيحة قادته العسكريين على مضض وأضاف 4 آلاف جندي في آب 2017. سرعان ما اتضحت تداعيات هذا الجدل السياسي. بدأ ترامب يدرك أن الضباط ليسوا محسوبين عليه مع أنه كان يسمّيهم "جنرالاتي" في مرحلة معينة. وعلى غرار ما أصاب أوباما قبله، شعر ترامب بأن البنتاغون يحاصره.

حين سئم ترامب من مقاربة الجنرالات، سلّم ملف أفغانستان إلى المبعوث الخاص زلماي خليل زاد، وهو السفير الأميركي السابق في أفغانستان. كلّفه ترامب بعقد صفقة مع حركة "طالبان" لسحب الجنود الأميركيين وقوات حلف الناتو من أفغانستان تزامناً مع تحقيق الأهداف الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب. نفّذ خليل زاد هذه المهمة في شهر شباط الماضي.

مقابل تلقي ضمانات بأن توقف "طالبان" استهداف القوات الأميركية والمدن الأفغانية الكبرى وتبدأ محادثات سلام مع الرئيس الأفغاني أشرف غني ولا تسمح للجماعات الإرهابية باستعمال الأراضي الأفغانية كقاعدة لإطلاق اعتداءات دولية، تعهد خليل زاد بسحب جميع الجنود الأميركيين وقوات حلف الناتو بحلول أيار 2021. لكن رغم حرص المبعوث الخاص على طمأنة الحلفاء في الناتو مراراً حول ارتباط أي عمليات انسحاب مستقبلية بالظروف الميدانية، لم تنفذ "طالبان" يوماً الخطوات التي توقّعها البنتاغون والقادة العسكريون في قوات التحالف. بلغ عدد الضحايا مستوىً قياسياً في الأشهر الأخيرة وتباطأت المحادثات الأفغانية الداخلية تزامناً مع تراجع أعداد الجنود الأميركيين (يقتصر عددهم اليوم على 5500 عنصر). كذلك، ترفض "طالبان" حتى الآن قطع علاقاتها مع تنظيم "القاعدة"، وهو مطلب أميركي أولي لم يصبح جزءاً من الاتفاق النهائي.

بدعمٍ من القادة العسكريين، دعا وزير الدفاع الأسبق مارك إيسبر ترامب إلى وقف أي انسحاب إضافي للجنود حتى تنفّذ "طالبان" وعودها. لكن كانت تلك النصيحة، بالإضافة إلى خلافات سياسية أخرى مع ترامب، كفيلة بكبح مسيرة إيسبر. قرر الرئيس إقالته من منصبه مع عدد من كبار القادة الآخرين في البنتاغون بعد الانتخابات بوقتٍ قصير.

لكن حتى لو بقي 14 ألف جندي أميركي في أفغانستان، كما كان الوضع في العام 2018، لن تنتصر الولايات المتحدة على "طالبان" هناك. قد تبدو هذه الفكرة غير محبذة، لكنّ تعريض القوات الأميركية للمخاطر لا يهدف إلى تحقيق الفوز أو حل المشاكل دوماً، بل تتمحور هذه المهمة أحياناً حول السيطرة على التهديدات ومنع المشاكل الصغيرة من التحوّل إلى أزمات كبرى. طوال سنوات، كانت السياسة الأميركية الفعلية في أفغانستان تقضي بالحفاظ على أعداد كافية من الجنود هناك لمنع "طالبان" من سحق الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة في كابول وعدم السماح للجماعات الإرهابية باستعمال البلد كقاعدة لإطلاق العمليات مجدداً. قد يكسب ترامب بعض النقاط السياسية في معسكر الأميركيين الذين سئموا من ذلك الصراع حين يقرر سحب المزيد من القوات العسكرية، لكنّ هذه الخطوة تُعرّض العدد المتبقي من الجنود الأميركيين لمخاطر إضافية.

كذلك، تبرز عواقب أخرى لسوء تعامل ترامب مع ذلك الصراع. يتّضح استياء قادة الدول الحليفة من الوضع القائم في التعليقات اللاذعة التي أدلى بها حديثاً أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ، فقد حذر هذا الأخير من احتمال أن "تتحول أفغانستان مجدداً إلى منصة للإرهابيين الدوليين حيث يخططون وينظمون الاعتداءات ضد أراضينا". كان استعداد ترامب لتجاهل الشروط التي فرضها مبعوثه الخاص على حركة "طالبان" مؤشراً على عدم احترامه لحلفاء الولايات المتحدة وشركائها الذين دعموا الأميركيين طوال 19 سنة، مع أنهم لم يتعرضوا شخصياً لاعتداءات 11 أيلول، وضحّوا بأكثر من ألف جندي ومليارات الدولارات من أموالهم الخاصة. من الواضح إذاً أن مقاربة ترامب تُصعّب التعاون وتُضعِف مصداقية الولايات المتحدة.

على صعيد آخر، أضعفت مناورات ترامب الرئيس الأفغاني أشرف غني تزامناً مع إعطاء الشرعية إلى حركة "طالبان" باعتبارها شريكة جديرة بالثقة في المفاوضات. بدأ غني ولايته الرئاسية الثانية بعد الإعلان عن فوزه في الخريف الماضي بانتخابات بقيت نتائجها عالقة طوال أشهر. بالإضافة إلى "طالبان"، يواجه غني منافسين آخرين على السلطة في أفغانستان وحتى داخل الحكومة التي يرأسها. لكن بدل مساعدته على حل هذه الصراعات، ضغط عليه ترامب ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو كي يقدم تنازلات غير ضرورية لصالح "طالبان" من دون تحقيق أي مكاسب في المقابل. لقد اقتربت نهاية موسم التقاتل السنوي وتبدو "طالبان" شبه متأكدة من قدرتها على اتخاذ خطوات أكثر جرأة، وهي تتوقع تعثّر حكومة غني حين تتجدد الحملات الهجومية في الربيع المقبل.

مرّ عقدان من الزمن تقريباً على بدء هذه الحرب من دون تحقيق تقدّم مستدام بارز. ربما تَفهّم الأميركيون، لا سيما المجموعات العسكرية التي حاربت وضحّت بنفسها في أفغانستان، نزعة ترامب إلى تنفيذ انسحاب عسكري سريع، حتى أنهم تعاطفوا مع قراره على الأرجح. وفق بحث شارك فيه أستاذ العلوم السياسية بيتر فيفر من جامعة "ديوك"، يفضّل أكثر من 40% من الأميركيين عدم التعبير عن رأيهم حول هذا الصراع.

لكنّ أي انسحاب كامل سيترافق مع نتائج كارثية. لا مفر من أن تحتدم الحرب في أفغانستان بوتيرة فائقة وسيتحمّل المواطنون الأفغان الأبرياء معظم أعباء الصراع. ربما يبالغ البعض أحياناً في تقدير حجم التهديدات الوشيكة التي تطرحها الجماعات الإرهابية، بما في ذلك "القاعدة" و"داعش"، لكنّ الفوضى العارمة غداة الانسحاب الأميركي الكامل ستُسهّل على تلك الجماعات استرجاع قدراتها.

يبدو أن هذه العواقب المحتملة، بالإضافة إلى المشاكل اللوجستية التي ترافق سحب القوات العسكرية سريعاً، هي التي منعت ترامب من سحب الجنود دفعةً واحدة. لكن من خلال إصدار أمرٍ بإعادة جميع القوات العسكرية إلى ديارها، باستثناء 2500 عنصر، قبل موعد تنصيب بايدن، سيترك ترامب وراءه وجوداً عسكرياً غير مستدام في أفغانستان ويُخلّف أزمة محتدمة للشــعب الأفغاني وفوضى عارمة لإدارة بايدن وهاريس.

من المتوقع أن يُخفّض حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها في حلف الناتو التزاماتهم العســـكرية. كذلك، ستقتصــر قواعــد الولايـــات المتحدة وحلف الناتو على عددٍ أقل من المـــــــواقع، أبرزها في محيط كابول، وسيكتفي المسؤولون هناك بتقديم التوصيات إلى المغاوير والطيارين الأفغان خارج العاصمة. في الوقت نفسه، سيعطي القادة العسكريون الأميركيون الأولوية على الأرجح لمهام مكافحة الإرهاب وتقديم الدعم الجوي للقوات الأمنية الأفغانية لمساعدتها على الدفاع عن مراكز سكانية أساسية.

انقلب ترامب بكل وضوح على مقاربة الرئيسَين جورج بوش الإبن وباراك أوباما قبله. حين اضطر بوش لاتخاذ قرار حول زيادة القوات العسكرية في أفغانستان في العام 2008، فضّل تأجيل ذلك القرار كي يسمح لأوباما بتنفيذ استراتيجية من اختياره. كذلك، تجنب أوباما في نهاية عهده الرئاسي اتخاذ أي قرار حاسم حول إمكانية تسليح القوات الكردية في شمال سوريا لشن هجوم على معقل «داعش» في الرقة، ففتح بذلك المجال أمام الإدارة الأميركية اللاحقة كي ترسم مسارها الخاص. لكن ينوي ترامب على ما يبدو أن يُصعّب الوضع على بايدن في ملف أفغانستان لأقصى حد، ما يعني تصعيب ظروف القوات الأميركية المنتشرة هناك ميدانياً.

على أرض الواقع، لن تكون الظروف مؤاتية لتنفيذ انسحاب كامل من أفغانستان في المستقبل المنظور. وحتى لو أراد بايدن أن يستمر الوجود الأميركي لمكافحة الإرهاب على المدى الطويل، ستحتاج القوات العسكرية إلى موارد كثيرة لحماية نفسها ومنع انهيار الحكومة المحلية. في مطلق الأحوال، يتعين على الإدارة الأميركية الجديدة أن ترسم توقعات واقعية حول مدة الالتزام الأميركي وطبيعته هناك أكثر مما فعل ترامب.

ربما كانت النتيجة التي حققها ترامب متعمدة أو ربما تشتق من قلة الكفاءة أو الحقد أو الغطرسة، لكنها فرضت في جميع الأحوال ظروفاً قد تُمهّد لعمليات مثل "خليج الخنازير" أو "سقوط الصقر الأسود" أو أحداث بنغازي: في هذه الحالات كلها، تورطت الولايات المتحدة في صراعات خارجية بدرجة تكفي لنشوء معارضة هائلة ضدها، لكنها لم تكن قوية بما يكفي كي تحمي شعبها. كانت أفغانستان تواجه وضعاً سيئاً أصلاً قبل أن يعلن ترامب إطلاق الجولة الأخيرة من انسحاب القوات العسكرية، لكن حرص الرئيس المنتهية ولايته على زيادة الوضع سوءاً وجَعْله غير قابل للاستمرار. على الإدارة الأميركية الجديدة إذاً أن تسارع أولاً إلى تنظيف الفوضى التي خلّفها ترامب.


MISS 3