ديفيد كوه

تأثير المعطيات الجيوسياسية على الأمن الإلكتروني

11 كانون الأول 2020

المصدر: The Diplomat

02 : 00

التجسس ظاهرة شائعة منذ العام 500 قبل الميلاد. كان رؤساء الطهاة المكلّفون بتحضير الموائد في مدينة "سيباريس" المتوسطية القديمة (جنوب إيطاليا في الزمن المعاصر) يحتجّون ضد منافسيهم حين يقلّدون وصفاتهم الفائزة بجوائز مرموقة. سرعان ما منح قادة المدينة هؤلاء الطهاة حقوقاً حصرية لتحضير وصفاتهم طوال سنة، فشكّلت تلك الخطوة واحدة من أقدم الأمثلة على حماية حقوق الملكية الفكرية.

خلال الفترة نفسها تقريباً، كتب الجنرال الصيني سون تزو أطروحته The Art of War (فن الحرب) في الصين. ومن بين فصولها الثلاثة عشر، خصّص فصلاً كاملاً وأخيراً لموضوع التجسس وجمع المعلومات الاستخبارية.

كانت هذه العمليات السرية شائعة في العصور القديمة، وكل ما تغيّر منذ ذلك الحين هو تطوّر التكنولوجيا. لكن استمر المفهوم الجوهري للتجسس حتى هذا اليوم: تحمل الدول والشركات أسراراً خاصة بها ويريد الآخرون اكتشافها.

في ظل البيئة الرقمية السائدة اليوم، يتم تخزين كميات إضافية من بياناتنا ومواردنا في أنظمة وشبكات الكمبيوتر وأخيراً في السحابة الإلكترونية. لا تأتي التهديدات من المدن أو الدول المجاورة فحسب، فقد أدت البيئة الرقمية إلى تسطيح عامل الجغرافيا بالشكل الذي نعرفه أو حتى تدميره.

في السنوات الأخيرة، أطلقت الدول مسار التحوّل الرقمي بوتيرة متزايدة فيما نحاول جميعاً تحقيق أكبر مكاسب ممكنة لتحسين أسلوب الحياة في مجتمعاتنا واستكشاف القدرات والإمكانات الاقتصادية المتاحة.

تسارعت ظاهرة الرقمنة منذ تفشي وباء "كوفيد - 19" في الفترة الأخيرة، ما أدى إلى زيادة الاتكال على العالم الرقمي لتحديد طريقة عيشنا وعملنا وتفاعلاتنا. كذلك، اتخذت عمليات التجسس وسرقة البيانات ومحاولات تخريب خدماتنا اليومية طابعاً رقمياً متزايداً.

وفي ظل تنامي اتكالنا على الأدوات الرقمية وتوسّع المساحات الإلكترونية، أصبح الناس أيضاً أكثر عرضة للعمليات الخبيثة والجرائم الإلكترونية ومخاطر الأمن الإلكتروني.

الأمن الإلكتروني: مسألة ذات أهمية جيوسياسية

يدعم الأمن الإلكتروني تقدّمنا الرقمي لأن التدابير المستعملة لتنفيذه تقوّي دفاعات أنظمتنا وشبكاتنا ضد الجهات المسيئة التي تحاول الاستيلاء على بياناتنا أو تعطيل الخدمات الأساسية في حياتنا اليومية.

لا نستطيع تحمّل كلفة انحسار الرقمنة أو التوقف عن استعمال هذه التقنيات الحديثة بسبب التهديدات الإلكترونية. يجب أن نحمي التقنيات الجديدة ونطوّر الطرق اللازمة للسيطرة على المخاطر والاستفادة من منافع التكنولوجيا. على أرض الواقع، لا يمتنع الناس عن شراء منزل مثلاً لمجرّد أنه معرّض للسطو، بل إنهم يجدون الحلول المناسبة لحماية تلك الملكية. يجب أن ينطبق المبدأ نفسه على الفضاء الإلكتروني.

على صعيد آخر، لا يمكن اعتبار الأمن الإلكتروني بعد الآن مجرّد مسألة "تقنية" لأنه أصبح جزءاً من العالم الجيوسياسي. تشكّل التقنيات الأساسية، بدءاً من تكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية الخاصة بالاتصالات، وصولاً إلى تقنيات ناشئة مثل شبكة الجيل الخامس والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية والمخاطر التي تنذر بها في الفضاء الإلكتروني، أدوات بارزة تستطيع التأثير على الأمن القومي والتقدم الاقتصادي والقيم الاجتماعية في مختلف الدول.

بدأ الفضاء الإلكتروني يتحول إلى ساحة معركة جديدة حيث تتقاتل الدول لفرض سيطرتها على تقنيات محورية ولتحديد الأجندة الخاصة بالمعايير التقنية على مستوى العالم. وبدأت القدرات الإلكترونية والتقنيات الأساسية تتحول إلى أدوات قد تستعملها سلطات الدولة ضد خصومها. في الوقت نفسه، استهدفت الجهات الخبيثة مجموعة أساسية من الموارد والبنى التحتية بطريقة استراتيجية، فعطّلت مثلاً خدمات الرعاية الصحية وسرقت الأبحاث حول لقاحات فيروس "كوفيد - 19" تزامناً مع فرض تكاليف باهظة على الشركات والحكومات غداة تشويه سمعتها.

التعاون في مجال الأمن الإلكتروني أساسي

أدت هذه التطورات في آخر ثلاث أو أربع سنوات فقط إلى تسليط الضوء على أهمية تكثيف التعاون لإطلاق استجابات إقليمية وعالمية موحّدة تمهيداً لبناء فضاء إلكتروني آمن وجدير بالثقة وقابل للتشغيل المتبادل. تعني طبيعة التهديدات الإلكترونية العابرة للحدود أن الدول محكومة بالتعاون في ما بينها، دولياً وإقليمياً، لحماية الأمن الإلكتروني الخاص بالبنى التحتية الأساسية والشركات والناس.

لطالما دعمت سنغافورة نظاماً متعدد الأطراف ومبنياً على القواعد في كل مجال من المشاعات العالمية، بما في ذلك الطيران والمساحات البحرية والتجارة. نحن ندرك جيداً أن الخيار البديل الذي يعطي أصحاب السلطة الحق بتحديد الخطأ والصواب سيكون كارثياً على دولة صغيرة مثل سنغافورة.

لن يكون الفضاء الإلكتروني استثناءً على القاعدة. يُعتبر النظام المبني على القواعد عنصراً أساسياً لأنه يعطي جميع الدول، الكبيرة منها والصغيرة، عوامل الثقة والثبات والاستقرار، وهي نقاط ضرورية لإحراز التقدم الاقتصادي وخلق فرص العمل واستخدام التكنولوجيا بأفضل الطرق. في ظل المناخ الراهن، زادت حاجتنا إلى التعاون الدولي لتحديد القواعد المناسبة في العالم الرقمي.

تشمل الأمم المتحدة أعضاء من جميع دول العالم ويرتكز عملها على مبدأ المساواة في السيادة، ولهذا السبب قد تكون الجهة المخوّلة استضافة النقاشات المرتبطة بالفضاء الإلكتروني وتطوير إطار عمل يضمن استقرار الفضاء الإلكتروني العالمي ويزيد قوّته بناءً على إجماع الدول الأعضاء كلها.

لدعم هذه النقاشات المهمة حول الأمن الإلكتروني الدولي، تنظّم سنغافورة "أسبوع سنغافورة الدولي للإنترنت" منذ العام 2016، فتجمع القادة السياسيين والصناعيين وصانعي السياسة وكبار المفكرين من جميع أنحاء العالم لمناقشة أهم السياسات الرقمية والسيبرانية والتحديات الجيوسياسية المرتبطة بها.

تتعدد المواضيع المطروحة، منها إيجاد الطرق المناسبة لتجاوز الانقسامات الرقمية المتزايدة داخل الدول وفي ما بينها، وحماية أمن البيانات وخصوصيتها في ظل التهديدات المتوسعة في الفضاء الإلكتروني، وإنشاء نظام بيئي قوي واستكشاف المهارات الإبداعية، وتعميق التعاون الدولي لمحاربة آفة الجرائم الإلكترونية.

في ظل انتشار الوباء، اتخذ "أسبوع سنغافورة الدولي للإنترنت" هذه السنة أهمية خاصة. لقد استعملنا صيغة مختلفة هذه المرة، فجمعنا مشاركين من ستين دولة على منصة افتراضية. ثم أعلنت سنغافورة و"مكتب شؤون نزع السلاح" التابع للأمم المتحدة عن تطوير "قائمة لمراجعة تنفيذ القواعد" بطريقة مشتركة. تُحدد هذه القائمة الخطوات المطلوبة من الدول لتنفيذ 11 قاعدة طوعية وغير مُلزِمة تضمن التصرف بمسؤولية في الفضاء الإلكتروني، بما يتماشى مع محتوى تقرير "مجموعة الخبراء الحكوميين" التابعة للأمم المتحدة في العام 2015. ستسمح تلك القائمة للدول باتخاذ خطوات عملية وقابلة للتنفيذ لتطبيق المعايير المتفق عليها، بما يتجاوز بيانات الموافقة الفضفاضة.

على المستوى الإقليمي، يجب أن تدعم منظمات المنطقة الدول في الفضاء الإلكتروني وتساعد أعضاءها على تنفيذ البنود المتفق عليها خلال نقاشات الأمم المتحدة المفتوحة والشاملة.

في منطقة جنوب شرق آسيا، حافظت "رابطة أمم جنوب شرق آسيا" على ثبات مواقفها وقوة التزامها باستقرار الفضاء الإلكتروني. ففتحت المجال أمام إنشاء نظام متعدد الأطراف ومبني على القواعد في المساحات الإلكترونية من خلال تطبيق المعايير السيبرانية وحماية البنى التحتية الوطنية والعابرة للحدود دعماً لأهم قطاعات الاتصالات والتجارة والنقل والخدمات اللوجستية في المنطقة.

في العــام 2018، كانت "رابطة أمم جنوب شرق آسيا" أول كتلة إقليمية تلتزم في المبدأ بالمعايير الطوعية وغير الملزمة التي يذكرها تقرير "مجموعة الخبراء الحكوميين" التابعة للأمم المتحدة (ولا تزال الجهة الوحيدة الملتزمة بها حتى الآن).

انطلاقاً من أول بيان صدر خلال السنة نفسها حول التعاون في مجال الأمن الإلكتروني بين قادة "رابطة أمم جنوب شرق آسيا"، اتخذت الرابطة خطوات ثابتة ومهمة لبناء القدرات الإلكترونية الإقليمية ومساعدة أعضائها على التحكم بالمخاطر والتهديدات المطروحة في الفضاء الإلكتروني. تتعدد الجهود الرامية إلى تحقيق هذا الهدف، منها "برنامج القدرات السيبرانية" الذي أطلقته الرابطة، و"مركز الامتياز للأمن السيبراني" بين "رابطة أمم جنوب شرق آسيا" وسنغافورة، و"مركز بناء قدرات الأمن الإلكتروني" بين "رابطة أمم جنوب شرق آسيا" واليابان.

في المرحلة المقبلة، تريد "رابطة أمم جنوب شرق آسيا" أن تتقاسم تجارب سنغافورة مع دول ومناطق أخرى تمهيداً لجعل الفضاء الإلكتروني العالمي أكثر أماناً لمختلف شعوب العالم.

شبكة دولية لحماية الأنظمة الجماعية

من الواضح أن الدول الفردية لن تتمكن وحدها من الدفاع عن نفسها في وجه التهديدات الإلكترونية. إنها مشكلة شائكة ولا يمكن حلّها دفعةً واحدة. لكن يجب أن نتابع المحاولة في جميع الأحوال لأن مستقبلنا الرقمي الجماعي يتوقف على هذه الجهود.

حفاظاً على أمن أنظمتنا وشبكاتنا، تبرز الحاجة إذاً إلى بذل جهود متفانية ومتواصلة، بدعمٍ من الشراكات الدولية والإقليمية. إنها مسؤوليتنا الجماعية.

لا تنحصر المسائل التي أصبحت على المحك اليوم بوصفات الطعام، كما كان الوضع في المدينة المتوسطية القديمة، بل إن أمننا القومي وأنظمتنا الاقتصادية الرقمية ودولنا الذكية باتت مُهددة الآن. باختصار، أصبح أسلوب حياتنا الرقمي معرّضاً للخطر!


MISS 3