عيسى مخلوف

وقفة من باريس

جريمة الشيخوخة

12 كانون الأول 2020

02 : 00

"الموجة" للفنّان الياباني هوكوساي (1831)

وجدتُ نفسي فجأةً مع مجموعة من الأشخاص الذين أحسّوا بوطأة العمر. في السنوات الأخيرة، خفَّ تَبجُّح صلاح ستيتيّة بنفسه وراح يحدّثني بشكل شبه يومي عن الموت. عن موته هو بالتحديد. عن الورود التي تطلّ برأسها من نافذته الملاصقة للحديقة، تسأل عنه وتذكّره كلّ لحظة بأنّها عابرة مثله. قال لي في إحدى المرّات إنّ المرأة التي تعيش معه تركته لأنّها تخاف أن تستيقظ ذات يوم وتجده مرميّاً على الأرض، بلا حراك. وقبل أسبوع من نقله إلى المستشفى، زرته في منزله في قرية "ترامْبليه سُور مُولْدر"، فأخذَني إلى مقبرتها ليدلّني على قبره الذي كان قد حدّثني عنه مراراً ودعاني إلى رؤيته. هناك، أشار إلى منحوتة رخاميّة فوق القبر تحمل توقيع النحّات الفرنسي جان أنغيرا، وقد حُفرَت فيها أثلام أفقيّة طويلة اختصرها صلاح بقوله "إنّها الطريق التي لا تؤدّي إلى مكان"، ثمّ أشار إلى تاريخ ميلاده المحفور في إحدى زواياها، وأضاف: "قريباً سيضيفون إليه تاريخي الآخر".

أمس أيضاً، كان صوت إيتل عدنان مُتعَباً كأنّه خيط واهن يكاد ينقطع. أمّا فينوس خوري غاتا فقالت لي في اتّصالها الهاتفي الأخير إنّها مريضة، وإنّها وحدها مع القطّة. وأضافت: "ستتّصل بي ابنتي في يوم قريب ولن يردّ عليها أحد". فينوس التي أمضت حياتها تكتب، أرادت أن تثبت وجودها من خلال الكتب والجوائز وأن تهرب من طفولتها المعذّبة الحزينة التي وصفتها في كتبها حين حكت عمّا تعرّض له أخوها الذي أرسله والده إلى مصحّ المجانين. أخبرتني فينوس أيضاً أنّها يومَ ذهبت مع أدونيس لزيارة صلاح، للمرّة الأخيرة، في مأوى المسنّين في الضاحية الباريسيّة، لاحظت أنّ ذاكرته بدأت تخونه. وعندما هَمَّا بركوب السيّارة للعودة إلى باريس، سبقهما هو إليها وجلس في المقعد الخلفيّ.

الشيخوخة جريمة. انتحر الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا ليقتل الشيخوخة قبل أن تقتله. رآها تتقدّم نحوه كموجة عالية وهرب منها. كالموجة العملاقة الرهيبة التي رسمها الفنّان الياباني هوكوساي.

في العام 2008، خصّصت مجلّة "أوروب" الفرنسيّة، في عددها 955-956، ملفّاً عن الكاتب والشاعر والمترجم السويسري فيليب جاكوتيه، ودُعيتُ إلى المشاركة فيه. بعد أيّام قليلة من صدور هذا العدد، وصلتني رسالة من جاكوتيه كانت بداية مراسلة بيننا. في الرسالة الأخيرة التي أرسلها إليّ، أخبرني بأنّها آخر رسالة لأنّ يده لم تعد تسعفه على الكتابة. يده التي كتبت ما عاد بإمكانها أن تكتب.

وأخيراً، سيّدة الألزهايمر: الأُمّ. لقد أصبح الحوار معها في النهاية لغةً سابقة للُّغات. تنظر إليَّ ولا تراني. تتعقّبني بنظراتها كآلة تصوير. كان يكفي أن تضع يدها فوق يدي حتّى يتبدّى العكس، ويتكشّف أنّ ثمّة ما يزال صاحياً تحت الجلد. ثمّة ما يتحرّك تحت الثلج الهامد. لم أودّعها في زيارتي الأخيرة لها، ولم أخرج أمامها من الباب الرئيسي، بل من الباب الخلفيّ المفضي إلى الحديقة، حتّى لا تشعر بأنني فارقتُها. لحظة وصولي إلى باريس، اتّصلتُ بالمرأة التي ترافقها لأطمئنَّ عليها فأخبرتني بأنها، بعد مغادرتي بلحظات، نهضَت من مكانها وتوجّهت بخطوات بطيئة نحو غرفة النوم. فتحَت خزانة الثياب وسألَت: "أين الذي كان هنا منذ قليل؟ أين هو صاحب هذه الثياب؟".

في كتابها "الشيخوخة"، كتبت سيمون دو بوفوار لتشهد على واقع المُسنّين. كانت صوتهم حين تساءلت: "هل المسنّون من أبناء البَشَر؟"، هي التي تقول إنّ "العيش هو التقدُّم في العمر، ليس إلاّ".

ما من شيخوخة واحدة في موازاة شيخوخة الجسد التي لا مفرّ منها. هناك شيخوخة الروح والعقل، وهي غير محدّدة بزمَن. وهناك شيخوخة المجتمعات المقيمة بشبّانها وشيوخها في عتمة الماضي، فضلاً عن شيخوخة الحبّ التي لا تتقيّد، هي أيضاً، بعُمر. وقد نجد مسنّين لم تنطفئ في قلوبهم جُذوة الحبّ. العام الماضي، قبل حلول الوباء، التقيتُ برجل وامرأة في مقهى "كاريت" في التروكاديرو. هو في السادسة والثمانين، وهي في الثالثة والثمانين. كانا يجلسان إلى طاولة بجوار طاولتي. قال الرجل إنّه يأتي مع زوجته إلى هذا المقهى منذ ستّين عاماً.

- منذ ستّين عاماً وأنتما معاً، سألتُ بدهشة.

- سنظلّ معاً حتّى لو أُعطيَ لنا أن نعيش ألف عام.

ابتسمت هي. التفتت إليه وقالت: "أَخبره متى وكيف حدث لقاؤنا الأوّل".

قال: "كنّا نتابع دراسة الحقوق في جامعة واحدة. في أحد الأيّام، رأيتها تنزل درجات السُّلَّم. التفتَت إليَّ ولمحتُ بريق الجمر في عينيها"...


MISS 3