أريان تاباتاباي

إيران باقية في سوريا!

16 كانون الأول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

في وقتٍ سابق من هذا الأسبوع، أعلن مسؤولون عراقيون عن حصول ضربة جوية أسفرت عن مقتل قائد في الحرس الثوري الإيراني حين كان متجهاً إلى سوريا من العراق في 29 تشرين الثاني مع شحنة من الأسلحة. انتشر هذا الخبر بعد أيام على اغتيال محسن فخري زاده، وهو مسؤول مرموق آخر في الحرس الثوري الإيراني ولطالما اعتبرته أجهزة الاستخبارات العقل المدبّر وراء برنامج إيران النووي السري السابق. التزمت إسرائيل الصمت، لكن يشتبه الكثيرون بتورط جهازها الاستخباري في العمليتَين معاً.

سارع المسؤولون الإيرانيون إلى لوم إسرائيل على اغتيال فخري زاده وتوعدوا بالانتقام. لكنهم رفضوا الاعتراف بحصول اعتداء آخر ضد قوات الحرس الثوري الإيراني بالقرب من الحدود العراقية السورية وبمقتل قائد رفيع المستوى. بعد يوم على نقل جنازة فخري زاده عبر التلفزيون الحكومي مباشرةً، اعتبر متحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية التقارير المرتبطة بمقتل جنرال من الحرس الثوري الإيراني في سوريا مجرّد حملة دعائية كاذبة.

من المبرر أن تحاول إيران إبعاد الأنظار عن نشاطاتها في سوريا، إذ لم يعترف النظام يوماً بدوره الواسع في ذلك الصراع. وفي الأيام الأخيرة، ركّز المحللون الأميركيون بقوة على احتمال أن تتلاشى آمال الرئيس المُنتخب جو بايدن بإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني بسبب تعهد إيران بالانتقام لمقتل فخري زاده. لكن يبقى التزام طهران تجاه دمشق مصدر تهديد على استقرار المنطقة، وبدأ التوتر بين إيران وإسرائيل بسبب سوريا يتصاعد سريعاً وقد يجبر إدارة بايدن على التحرك هناك بعد استلامها السلطة بفترة قصيرة.

طوال سنوات، اعتادت إسرائيل على استهداف مواقع إيرانية في سوريا من وقتٍ لآخر. وفي الأشهر الأخيرة، ضربت إسرائيل عدداً من الأهداف الإيرانية عالية المستوى وكانت هذه العمليات كفيلة بتصعيد التوتر بين إيران والولايات المتحدة. تفيد التقارير الإخبارية بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعطى وزير الخارجية المؤيد لاستعمال القوة، مايك بومبيو، الضوء الأخضر لمعاقبة إيران طالما لا تطلق تلك الاعتداءات "حرباً عالمية ثالثة". لم يؤكد البيت الأبيض على صحة تلك التقارير لكن يبدو أنه يحرص على تأجيج المخاوف الإيرانية حول استعداد الولايات المتحدة لمتابعة دعم العمليات الإسرائيلية أو حتى التحرك بنفسها لاستهداف المواقع الإيرانية.

منذ الثورة الإسلامية في العام 1979، لطالما كانت علاقات إيران مع الدول العربية في جوارها متخبّطة في أفضل الأحوال. خلال الحرب الإيرانية العراقية بين العامين 1980 و1988، اصطفّت جميع الدول العربية في المنطقة مع صدام حسين، باستثناء سوريا التي قررت دعم إيران. وعلى مر العقدَين اللاحقَين، بقي حافظ الأسد وابنه وخَلَفه بشار من الأصدقاء القلائل الموالين للجمهورية الإسلامية في المنطقة.

حين بـــــدأت الاضطرابات تتأجج في سوريا في العام 2011، قدّمت إيران المساعدة إلى نظام الأسد لسحق التحركات المعادية له. أرادت طهران في البداية المشاركة في حملة سريعة لكن سرعان ما تحولت هذه العملية إلى تدخّل عسكري شامل شارك فيه أعضاء من الحرس الثوري الإيراني وقوات عسكرية تقليدية حين بلغت الأحداث ذروتها هناك. كذلك، حرّكت إيران تدريجاً حلفاءها وشركاءها لدعم الأسد. يصعب تقدير عدد القوات الإيرانية وتلك المدعومة من طهران في سوريا حتى الآن بناءً على المعلومات المتداولة علناً. غادر عدد من القوات الإيرانية بعدما أحكم الأسد قبضته على البلد، لكن بقي هناك عدد من القادة والمقاتلين لحماية مصالح إيران والإشراف على العمليات المستمرة.

تعتبر طهران سوريا جزءاً أساسياً من "محور المقاومة" وممراً رئيساً لنقل الأسلحة وإمدادات أخرى إلى "حزب الله". قد لا يدعم النظام الذي يلي عهد الأسد النفوذ الإيراني، حتى أنه قد يكون سنياً في معظمه، ما يعني أنه سيميل إلى الاصطفاف مع خصوم إيران في المنطقة. وفي ظل تراجع حلفاء إيران إقليمياً، تعتبر طهران أي نظام موال لها في سوريا عاملاً أساسياً لصمودها واستمرار نفوذها.

في آخر أربع سنوات طبّقت إدارة ترامب سياسة غير متماسكة في سوريا، ما أدى إلى تضرر المصداقية الأميركية ونشوء وضع يصبّ في مصلحة إيران. أعلنت الولايات المتحدة في مناسبات متكررة عن انسحابها أو تخفيض قواتها العسكرية ونكثت بالوعود التي قطعتها لـ"قوات سوريا الديموقراطية"، شريكتها في مجابهة تنظيم "داعش". أدت هذه القرارات وسواها في سوريا إلى إضعاف خطاب ترامب الصارم وأوحت بأن التصدي لإيران ليس من أولويات الرئيس الأميركي.

يجب أن تعترف إدارة بايدن المرتقبة بأن خياراتها للتصدي للنفوذ الإيراني في سوريا ستكون محدودة، ومع ذلك يمكنها أن تتخذ بعض الخطوات الفورية. اليوم تمنع واشنطن "قوات سوريا الديموقراطية" مثلاً من التواصل مع النظام السوري. يجب أن تزيل الإدارة الأميركية الجديدة هذا العائق وتسمح لهذه الجماعة بتعزيز تواصلها مع الجهات الأخرى عن طريق روسيا. تُعتبر "قوات سوريا الديموقراطية" الجهة الوحيدة التي تعارض النفوذ الإيراني في سوريا لأن الميليشات المدعومة من إيران لطالما ضايقتها على طوال نهر الفرات واستهدفت سكان مدينتَي دير الزور والقامشلي. قد تسهم "قوات سوريا الديموقراطية"، إذا خاضت المفاوضات إلى جانب روسيا، في سحب الميليشيات المرتبطة بإيران من المناطق التي تسعى واشنطن وجهات أخرى إلى تجديد الاستقرار فيها.

تقضي السياسة الأميركية الراهنة برفض تطبيع العلاقات مع نظام الأسد الوحشي. لكن تحاول دول عربية منذ الآن تجديد علاقاتها الديبلوماسية مع سوريا، بموافقة الولايات المتحدة أو من دونها. في الفترة الأخيرة، أعادت سلطنة عمان سفيرها إلى دمشق. وفي وقتٍ سابق من هذه السنة، فتحت الإمارات العربية المتحدة سفارتها هناك مجدداً. تستطيع الولايات المتحدة أن تحاول التأثير على هذه النقاشات عبر التواصل مع دول الخليج وإثبات استعدادها لتقبّل تعاملها الضمني مع النظام السوري.

حافظت الولايات المتحدة لوقتٍ طويل على قناة ديبلوماسية تسمح لها بالتواصل مع روسيا بشأن الملف السوري. تدرك واشنطن محدودية نفوذ روسيا ورغبتها في إشراك إيران، ومع ذلك يجب أن تتابع التعاون مع روسيا في المجالات التي تحمل مصالح مشتركة للطرفَين. تسعى موسكو وطهران معاً إلى إعلان انتصار الأسد واستغلال الوضع لمصلحة كل طرف منهما. لذا يجب أن تستفيد الولايات المتحدة من تنامي الفجوة بين روسيا وإيران. تستطيع واشنطن أن تضغط على روسيا لمساعدتها على طرد القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من المناطق الواقعة على طول وادي نهر الفرات والمساحات القريبة من إسرائيل. في المقابل، يمكنها أن تعرض على موسكو التنازل عن مناطق لا تريدها الولايات المتحدة لكنها تهمّ روسيا لتحقيق أهدافها المرتبطة بإعادة ترسيخ سيطرة نظام الأسد في سوريا كلها، مثل قاعدة "التنف" الأميركية.

كذلك، يجب أن تتعاون الولايات المتحدة مع أنقرة وموسكو لإزاحة طهران. يقضي خيار محتمل بإطلاق نقاشات ثلاثية حول الخلايا الإرهابية في إدلب، آخر معقل للمعارضة السورية وبعض أعضاء "داعش" و"القاعدة" وجماعات متطرفة وعنيفة أخرى. لكن لن تكون هذه المهمة سهلة بأي شكل. أصبحت العلاقات الأميركية التركية في حالة سيئة، وتختلف موسكو وأنقرة حول الجماعات التي تستحق تصنيفها كمنظمات إرهابية، وقد أثبت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداده لافتعال الصراعات من شرق أوروبا إلى شمال إفريقيا. لكن تستطيع واشنطن أن تقوي مكانتها في شمال شرق سوريا تزامناً مع السعي إلى استئصال الخلايا الإرهابية وإعادة ترسيخ نفسها كلاعبة أساسية في الجهود الديبلوماسية السورية مستقبلاً.

على صعيد آخر، يجب أن تتابع الولايات المتحدة التعاون مع إسرائيل عن قرب لمنحها هامشاً كافياً من الحرية لاستئصال التهديدات القائمة بالقرب من حدودها مع سوريا ولضمان مشاركتها في أي مفاوضات مرتبطة بإيران والجماعات التابعة لها. قد تتمكن الولايات المتحدة من استعمال المحادثات التي تعقدها بشكلٍ منفصل مع إسرائيل وروسيا كنقطة انطلاق لمفاوضات ثلاثية حيث تستطيع واشنطن وإسرائيل محاسبة روسيا على أي وعود تلتزم بها. كذلك، قد تكون النقاشات الثلاثية مفيدة لتقاسم المعلومات الاستخبارية حول حركة الأسلحة الإيرانية والتهديدات المحتملة على إسرائيل.

في النهاية، من الواضح أن إدارة بايدن ستَرِث ملفاً معقداً في الشرق الأوسط، أقلّه بسبب الاضطرابات القائمة بين إيران وإسرائيل على خلفية ملفات عدة، منها الوضع السوري. يبدو أن السياسة الأميركية الراهنة التي تهدف إلى معالجة دور إيران في سوريا تبالغ في تقدير حجم نفوذ واشنطن وقدرتها على إضعاف النفوذ الإيراني. على الإدارة الأميركية الجديدة إذاً أن تعترف بأن إيران لن تنسحب بالكامل من سوريا في المرحلة الراهنة ولن تخسر نفوذها كله هناك. لكن من خلال تطبيق سياسة أميركية واقعية وتدريجية في سوريا، من الأسهل على واشنطن أن تُخفّف الاضطرابات القائمة وتحدّ من خسائرها.