أود أرني ويستاد

الولايات المتحدة تعجز عن ردع الصين وحدها

18 كانون الأول 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 01

في منتصف تشرين الثاني الماضي، أصدر فريق التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية تقريراً مؤلفاً من 74 صفحة، يذكر فيه أن الصين تريد تعديل النظام العالمي بطريقة جذرية خدمةً لأهدافها الاستبدادية وطموحاتها بفرض هيمنتها. كانت هذه الوثيقة تهدف إلى توضيح "المصادر الفكرية للسلوك الصيني"، لذا استذكرت عمداً "مصادر السلوك السوفياتي" في إشارةٍ إلى المقالة البارزة التي كتبها أول مدير للتخطيط السياسي، جورج كينان، في صحيفة "فورين أفيرز" من دون ذكر اسمه في العام 1947. كان يُفترض أن يكون التقرير الجديد بمثابة برنامج عمل لتحديد السياسة الأميركية تجاه الصين خلال ولاية ترامب الثانية في حال فوزه، لكنه يطرح مشاكل عدة ستَرِثها إدارة بايدن المرتقبة ولا يذكر في المقابل أي حلول عملية.

كان تقرير إدارة ترامب محقاً حين اعتبر الصين من أكبر التحديات المطروحة على الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، فأثبت أن بكين زادت استبداداً داخلياً ووسّعت عدائيتها خارجياً. كما أنه يعترف بأن الصين حاولت التفوق على غيرها عبر فرض ضغوط اقتصادية وإطلاق عمليات تجسس، فضلاً عن استغلال سذاجة الجهات الخارجية التي تغفل عن الطبيعة القمعية للحزب الشيوعي الصيني. لكن يبقى التقرير محدوداً بفعل الضوابط الإيديولوجية والسياسية. وبما أن الوثيقة صادرة عن إدارة ترامب، يُفترض أن تعكس نفور الرئيس المنتهية ولايته من المنظمات الدولية مع أنها جهات أساسية للتعامل مع الصين.

في السنة الماضية، ناقشتُ في مقالة "مصادر السلوك الصيني" (بتاريخ أيلول/تشرين الأول 2019) في صحيفة "فورين أفيرز" محاولات صانعي السياسة ابتكار نسخة مستحدثة من سياسة الاحتواء التي طرحها جورج كينان، وقارنتُ بين الاتحاد السوفياتي والصين اليوم. اعتبرتُ حينها أن الاختلافات بين الحرب الباردة والتحديات الراهنة تبقى أكبر من القواسم المشتركة. يُفترض أن يستخلص المسؤولون دروساً مفيدة من السياسة السابقة طبعاً، لكن يجب ألا يسمحوا لها بتقييدهم. تتعلق أكبر نقطة ضعف في تقرير إدارة ترامب بعجز الحكومة عن التحرر من العوامل التي أعاقت السياسة الأميركية تجاه الصين حتى هذه المرحلة، أي محاولة تطبيق حلول من القرن العشرين على مشاكل القرن الواحد والعشرين. قد يكون تشخيص الإدارة الأميركية للمشكلة القائمة دقيقاً بدرجة معينة لكنّ الحل المقترح محكوم بالفشل.

أسباب تقدّم الصين

ترتكز السياسة الخارجية الصينية اليوم على خليط سام من القومية والمشاكل القديمة، لكنها مشحونة بالبراغماتية والصبر في الوقت نفسه. تتكل الصين على قوتها الاقتصادية الاستثنائية وتتابع مساعيها لاختبار قدرة أي بلد أجنبي على اعتراض مصالحها بالشكل الذي يحدده الحزب الشيوعي الصيني. يذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية أن هذه السياسة لا تمنع التعاون المحدود مع الدول الأخرى. هذا النوع من الخطوات في مجال السياسة الخارجية ليس جديداً، إذ تشهد النزعة القومية بمختلف أشكالها تنامياً متزايداً حول العالم. لكن تبقى الصين فريدة من نوعها من حيث حجمها وقدراتها المستقبلية. كما أنها دولة دكتاتورية قمعية حيث تختار نخبة صغيرة أعضاءها بنفسها وتتخذ جميع القرارات المهمة، وهذا ما يزيد مخاوف الدول الأخرى من نظام الحكم هناك.

لكن ما هي أهداف القادة اليوم؟ يبرز هدفان أساسيان: يتعلق أول وأهم هدف بمتابعة النمو الاقتصادي الصيني كي تزداد قوة البلد داخلياً، ويترسّخ حُكم الحزب الشيوعي الصيني الذي يرتكز في معظمه على النجاح الاقتصادي. أما الهدف الثاني، فيقضي بطرح الصين كقوة غالبة في معظم مناطق آسيا، بما في ذلك غرب المحيط الهادئ، وآسيا الوسطى، وشرق روسيا، والهيمالايا، والمحيط الهندي. حتى الآن تتخذ سياساتها في أماكن أخرى منحىً تفاعلياً وانتهازياً. لكن داخل هذه المنطقة المحورية بالنسبة إلى الصين وبقية دول العالم، اقتربت بكين من تحقيق التفوق الذي تحتاج إليه بشدة. زادت سهولة هذه العملية بفضل ضعف روسيا والاضطرابات القديمة في اليابان وتخبّط السياسة الخارجية الأميركية. لكن لا يقتصر الوضع على هذه العوامل وحدها، بل يتأثر السلوك الصيني أيضاً بعوامل داخلية في معظمها. ينسب تقرير وزارة الخارجية السياسة التوسعية الصينية إلى الأخطاء الأميركية، لكن ينمّ هذا التقييم بكل بساطة عن نوع من الغطرسة والتركيز على الذات، وهذا ما يجعله تحليلاً شائباً وخطيراً.

لتطوير الاستراتيجية الأميركية في المرحلة المقبلة، تقضي الطريقة المحتملة الوحيدة باستغلال التناقضات بين الهدفَين الرئيسيّين للحزب الشيوعي الصيني، أي الحفاظ على النمو الاقتصادي وتطبيق سياسة خارجية توسعية. يستنتج تقرير وزارة الخارجية الأميركية أن جزءاً من هذا التناقض سينكشف من تلقاء نفسه حين تدرك بقية دول العالم حقيقة النظام الصيني. لكن يجب أن تبذل الولايات المتحدة جهوداً إضافية لإجبار الصين على الاختيار بين هذين الهدفَين. على إدارة بايدن أن تتجاوز الخطوات التي اتخذتها إدارتا أوباما وترامب على التوالي لمساعدة الدول الآسيوية التي تريد مقاومة الضغوط الصينية. يُفترض إذاً أن توسّع واشنطن القدرات العسكرية الأميركية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ وتُطوّر سياساتها في مجالات التجارة والاستثمار والتكنولوجيا، لمكافأة الصين حين تلتزم بالاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف أو معاقبتها على تجاوزاتها.

بــــيــــن الــــمــــاضــــي والــــحــــاضــــر

تقدّم أحداث القرن العشرين درساً مهماً لا يزال ساري المفعول حتى اليوم: لا تستطيع الولايات المتحدة تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف من دون تكثيف تعاونها مع حلفائها وأصدقائها حول العالم. أي تحرك أحادي الجانب في الظروف الراهنة سيتجاوز القدرات الأميركية أكثر مما كان ليحصل لو طُبّقت المقاربة نفسها حين بدأت الحرب الباردة. في تلك الحقبة، كانت الولايات المتحدة تملك حوالى 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبقيت بحاجة إلى دعم حلفائها لتحقيق النجاح المنشود. اليوم، أصبحت الحصة الأميركية أقل من نصف تلك النسبة ومن المتوقع أن تتراجع بدرجة إضافية، إذا لم ينجح البلد في إعادة إحياء اقتصاده.

مع ذلك، يذكر تقرير وزارة الخارجية الأميركية أن الخطة التي تقضي بتدمير المؤسسات الدولية القائمة ثم إعادة بنائها بطريقة انتقائية تصبّ في مصلحة الولايات المتحدة اليوم. لكن نظراً إلى توازن القوى الاقتصادية في الوقت الراهن، تُعتبر هذه الفكرة جنونية بكل معنى الكلمة. من الجنوني أيضاً أن تتردد إدارة ترامب في حماية ودعم منظمات إقليمية ترفع راية التعددية والتعاون الدولي، مثل الاتحاد الأوروبي ورابطة أمم جنوب شرق آسيا. كذلك، من مصلحة الولايات المتحدة حتماً أن تبحث عن فرص أخرى للتعاون من خلال محاولة حث روسيا على تكثيف تواصلها مع الغرب، لكن من دون الامتناع عن انتقاد سلوك موسكو على الساحة الدولية.

الوضع اليوم لا يشبه ظروف الحرب الباردة، حيث كان خصم الولايات المتحدة معزولاً نسبياً وسرعان ما واجه عواقب عزلته. وعلى عكس الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، يريد الحزب الشيوعي الصيني اليوم أن ينفتح بلده على العالم ويكثّف تواصله مع بقية الدول لتسهيل تحقيق أهدافه. للتصدي لهذه السياسات الصينية، يجب ألا تكتفي الولايات المتحدة بإطلاق ردود استراتيجية ومؤسسية محددة، بل يُفترض أن تعيد صياغة رد حاسم على السؤال التالي: ما الذي يبرر أن تتمتع الولايات المتحدة بمكانة عالمية قوية بينما تكتفي القوى الأخرى بنفوذ أقل منها؟ كان الجواب واضحاً في معظم فترات القرن العشرين: تفوقت الولايات المتحدة على الجميع اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً في تلك الحقبة وكانت مستعدة لإنشاء التحالفات والمؤسسات الدولية كي تستعملها الدول الأخرى لتحقيق مصالحها الخاصة. لكن لم يعد هذا التفوق واضحاً اليوم. زاد الوضع سوءاً لأن التحزّب المفرط الذي يشوب النظام السياسي الأميركي وعجز الإدارة الأميركية عن التعامل مع وباء "كوفيد-19" المستجد كشفا نقاط الضعف الأميركية أمام الجميع. في الوقت الراهن، لا يمكن أن يقتنع الناس حول العالم بأن السياسات والمؤسسات الأميركية قدوة يُحتذى بها.

من المقلق أن يدعو تقرير استراتيجي رسمي إلى وضع سياسات أميركية "لضمان الحرية"، فيما يتجاهل بشكلٍ شبه كامل أبسط حقيقة عن الوضع الراهن، أي الفكرة القائلة إن الولايات المتحدة لن تنجح في منافسة الصين إلا عبر إقرار إصلاحات جوهرية محلياً، (لكن لا يمكن اعتبار هذا الموقف مفاجئاً على الأرجح لأن إدارة ترامب لا تدرك حقيقة ما تواجهه). تحتاج الولايات المتحدة إلى تحسين نظام الرعاية الصحية المحلي وبناها التحتية وأجور الوظائف التي يشغلها الناس العاديون، وتوفير تعليم مقبول الكلفة لتحضير الطلاب لأماكن عمل تشهد تبدلات جذرية اليوم. لتحقيق هذه الأهداف كلها، تحتاج واشنطن إلى حكومة قوية وكفوءة وفاعلة ترتكز على إجماع سياسي محدود على الأقل حول الوطن الذي تطمح الولايات المتحدة إلى نشوئه. من دون إعادة بناء البلد بهذه الطريقة، لا نفع من محاولة منافسة الدول الأخرى في الخارج.