د. ميشال الشماعي

بكركي قوّة التغييـر المُرتجـى

19 كانون الأول 2020

02 : 00

أتت زيارة البطريرك الراعي إلى بعبدا أمس، بعد زيارة الحريري الأربعاء الماضي لبكركي. ويبدو أنّها ذلّلت العقبات التي كانت موجودة بين بكركي والرئاسة الثالثة. وتلعب بكركي اليوم دور الوسيط، فهل تنجح حيث فشل الجميع أم أنّ الأزمة هي أبعد من بكركي وهيبتها المحليّة؟

يُخطئ من يظنّ أنّ بكركي لا تملك الحلول لأيّ أزمة قد تعصف بلبنان. فإن كانت بكركي بخير، فلبنان كلّه يكون بخير، لأنّها وجدانه وضمير الكيان فيه. ولا تستطيع أيّ مرجعية في لبنان والمشرق تجاوزها، حتّى لو ملك أيّ طرف فائض قوّة، سياسية كانت أم عسكرية. قوّة التغيير التي تملكها بكركي تضاهي كلّ القوى مجتمعة لأنّها تستمدّ مشروعية هذه القوّة من المرجعية الكيانية التاريخية.

من هذا المنطلق، أتت زيارة الحريري الأربعاء الفائت إلى بكركي، لأنّه يدرك هذه الحقيقة الوجودية ويحترمها جلّ احترام؛ لذلك أيقن أنّه كما لا يقبل بأن يتمّ تجاوزه أو تجاوز أيّ دور للسلطة التنفيذية التي يمثّلها، كذلك يجب ألا يقبل بأن يتمّ تجاوز دور غيره، لا سيّما إذا كانت رئاسة الجمهورية معنية. من هنا، يتجلّى دفاع بكركي دوماً عن هذا المركز الذي يمثّل وجدانها السياسي، وليس عن أيّ شخص موجود فيه؛ لا اليوم ولا بالأمس البعيد أو القريب ولا حتّى غداً.

محرّكات البطريركية ما زالت تدور باتّجاهات معروفة لكن غير تلك الفعالة. تدرك هي تماماً بأنّ الموضوع ليس في بعبدا بل يبدأ من الضاحية ويمرّ بالشام والعراق حتّى طهران الفقيه. لكن حضّها رئيس الجمهورية على حسم الموقف للتوصّل إلى حلّ في الملفّ الحكومي يأتي انطلاقاً من حرصها على تفعيل هذا الدور، الذي يجب أن ينبع من صلابة المركز الذي يمثّله ومن صلابة الشخص الذي يتولاه على السواء.

وتبدو لافتة مواقف البطريرك الراعي في ما يتعلّق بالحفاظ على المؤسسات، والدور الذي يجب أن تضطلع به تحت سقف الدستور، الذي لا يوفّر أيّ فرصة إلا ويذكّر فيها غبطته بالتّجاوزات التي ترتكب بحقّه. والمفارقة أنّ بكركي لا تملك الأدوات التنفيذية، فهي ليست حزباً سياسياً ولا تملك سلاحاً غير شرعيّ، لكنّها تفرض رأيها انطلاقاً من الاحترام الذي تحظى به في المجتمعين الدولي والعربي. وذلك لأنّها تحمل إرثاً تاريخيّاً كيانيّاً صميماً لا يمكن لأيّ أحد تجاوزه، ولا يكتَب لأيّ مشروع سياسيّ أيّ نجاح ولو جزئي إذا كان لا يأخذ بعين هذه المرجعيّة.

من هنا، إنّ تأكيد بكركي على ضرورة ترك القضاء يعمل كمؤسسة مستقلّة، هي ضرورة وجودية بالنسبة إلى الدولة المدنية والمؤسساتية والحيادية التي لطالما نادت وتنادي بها. ولا يمكن إلا التوقّف أمام النكسة التي تلقّاها الجسم القضائي في ملفّ التحقيق في انفجار بيروت. ولا يمكن تجاوزها لأنّ القانون والمساواة أمامه من خلال قدرته على المحاسبة، هو المفتاح الأوّل لقيام جمهوريّة قادرة وقويّة. وإن فُقِد هذا المفتاح نتيجة للحفاظ على التوازنات المحاصصاتية هذا يعني أنّ لا قدرة للبنانيين على الوصول إلى ما تصبو إليه بكركي من دون أيّ موقف جريء.

يبدو أنّ البوصلة التي تسعى بكركي إلى تصويب اتّجاهها قد تجمّدت باتّجاه واحد ومعروف. ولن يستطيع أحد فتح كوّة في جدار الأزمة اللبنانيّة إلا إذا استطاع أن يملك قوّة وقدرة على التغيير، مستندة إضافة إلى مرجعيّة بكركي، إلى نهج سياسيّ مبدئيّ ينطلق من الفكر المؤسساتي والحريّة والانسان. فشعبنا لم يعد يحتمل وجراحه تتزايد يوماً بعد يوم. فالمطلوب واحد، ألا وهو التغيير الجذري والحقيقي، وليس التغيير الشكلي بالأسماء الذي لن يفضي إلى أيّ نتيجة.

قد لا يكون الثلث المعطّل هو المعطّل الوحيد، وإنّما هنالك مجموعة عقد قد تنجح بكركي في تذليل علّة وجودها، لكن لن تنجح إلا بتحرّر مَن يضع هذه العقد في عجلة العربة الحكومية من التزامات قطعها على حساب وجودية هذا الوطن. وكما أشار غبطته عقب زيارته بعبدا أنّ "المنطقة على كفّ عفريت وغير مسموح أن يغيب لبنان عن القرارات المصيريّة"، فهنا لبّ القصيد. ولا يمكن أن يُخْرَج لبنان من ساحة الصراعات نتيجة لحسابات محليّة ضيّقة، وإلا لن يستطيع أن يكون في صلب الحلول القادمة، مهما كانت.

الحلول ما زالت بعيدة والخرق مستبعَد، لكنّ المطلوب عدم تشنّج المواقف أكثر، وإخراج لبنان من ثلّاجة الإنتظار، لأنّ على ما يبدو، لا تغيّرات ترتجى من السياسات الدولية للمنطقة. فكلّ هذه الفترة من الإنتظار ذهبت سدى، وبكركي تستطيع أن تطال الأمكنة كلّها لأنّها قوّة التغيير، وإنّ غداً لناظره قريب جدّاً.


MISS 3