طارق عينترازي

صحافة لبنان تشقّ طريق الخروج من جهنّم

21 كانون الأول 2020

18 : 47

أعترف بأني توقّفت عن الكتابة كوني فقدت الأمل في أي تطوّر إيجابي قد يطرأ على الأوضاع التي يمرّ بها لبنان. إلّا أنّ توصية مدير سابق، أدين له بالكثير ممّا تعلّمته في حياتي المهنية، بقراءة مذكّرات كبير محرّري صحيفة "واشنطن بوست" ليونارد داوني جونيور الصادرة منذ أسابيع قليلة أعاد إليّ بعض الأمل*.

في بداية مسيرته المهنية صيف عام 1965، قادت الصدفة ليونارد داوني جونيور إلى العمل في قسم الصحافة الإستقصائية عن الجرائم اليومية والجنح، وذلك نيابة عن أحد زملائه الذي أرسل في مهمّة إلى أوروبا. بدأ مهمّته بمزاولة العمل في مكتب الصحافة في مركز شرطة المدينة ومجمع محاكم واشنطن دي سي.

وثّق داوني الكثير من "حوادث" الوفاة والإنتحار بين الموقوفين بتهم أو جنح بسيطة في مراكز شرطة المدينة. كما لاحظ أنّ بعض الموظّفين والمحامين يشربون الكحول أثناء الدوام الرسمي. والأخطر من ذلك، كان نشاط "سماسرة القضاء" الذين يعملون مع المحامين لاختيار من يناسبهم من القضاة وتسهيل إطلاق السراح بكفالة، بالإضافة إلى فساد الكثير من محامي الدفاع المعيّنين من الحكومة للدفاع عن الفقراء من المتّهمين الذين لا يستطيعون توكيل محامٍ. كما شاع فساد نظام الكفالة وابتزاز الفقراء منهم. والأشدّ خطورة من كلّ هذا وذاك، كان كسل معظم القضاة الذين كانوا يعملون لساعات قليلة وفسادهم، ولم تكن تدوم جلسات محاكماتهم أكثر من دقائق معدودة تنتهي بإدانة المتّهمين الذين كان معظمهم من الأفارقة الأميركان.

استغلّ داوني "حقّ الوصول إلى المعلومات" في القانون الأميركي للتوسّع في عمله الإستقصائي، وقام بإحصاء أحكام الإدانة والبراءة لكلّ قاضٍ ومحامٍ، ومقارنة ذلك بطبيعة الجرم وعرق المتّهم وإلى ما هنالك.

بعد ثمانية أشهر من العمل، نشرت "واشنطن بوست" في فبراير 1966 سلسلة من سبعة مقالات توثّق ما يجري في "قصور العدل" ومراكز الشرطة في واشنطن دي سي، بناءً على تقارير ليونارد داوني الذي كان صحافياً مبتدئاً لا يتجاوز الرابعة والعشرين من العمر.

في المقابل، وثّقت الصحافة الإستقصائية اللبنانية فساد كلّ مفاصل الدولة وخصوصاً القضاء والأمن. تخيّلوا أنّ هذا الفساد كان يستشري في عاصمة أقوى إمبراطورية (وديمقراطية) عرفها العالم. إذاً، نحن في لبنان لسنا أوّل الفاسدين وأسوأهم. فدول عظمى نتمثّل بها عانت من مظاهر الفساد نفسها.

إلّا أن ما حدث بعد نشر هذه التقارير الصحافية لصحافي مبتدئ هو الأهمّ.

لم يُستدعَ الصحافي إلى "فنجان قهوة" عند ال CIA، بل اتّصل نائب مدّعي عام الولايات المتّحدة الأميركية رامزي كلارك، وكان مقرّباً من الرئيس الأميركي آنذاك ليندون جونسون، بالصحيفة طالباً مقابلة كاتب المقالات في أقرب فرصة ممكنة. لم يطلب منهم المجيء إلى مكتبه، بل أتى بنفسه إلى مبنى "واشنطن بوست" لمقابلة الصحافي والمدير المسؤول عنه. وأبلغهما كلارك خلال الاجتماع أنّ الرئيس قرّر إعادة هيكلة الجهاز القضائي كلّه في دي سي، وتوجّه إلى ليونارد سائلاً: "بناءً على مشاهداتك وتحقيقاتك ما رأيك في تعيين هارولد غرين رئيساً لقضاة المدينة"؟ لم يأخذ الأمر شهوراً ولا أسابيع، ولم تتمّ جرجرة الصحافي الإستقصائي إلى مخافر الشرطة، ولم يحاول أحد تركيب ملفّات له ولا اتّهامه بالعمالة، بل قامت أعلى سلطة تنفيذية وقضائية في البلاد بالتحرّك فوراً لاقتلاع الفساد من الشرطة ومن قصور العدل. لا آلهة ولا أحد فوق القانون.

العبرة من القصّة أنّ رئيس أقوى بلد في العالم قرأ تحقيقاً صحفياً لصحافي مبتدئ، وباشر فوراً إصلاح أجهزة القضاء والشرطة. إذا غيّرنا اسم المدينة والتاريخ تنطبق هذه القصّة على الكثير من التحقيقات التي أجرتها الصحافة اللبنانية. رياض قبيسي وآدم شمس الدين ورياض طوق وادمون ساسين وموقع "درج" وجمعية "لبنانيون ضدّ الفساد" والمحامي واصف الحركة وتحقيقات محامي هيئات المجتمع المدني كشفت ملفّات فساد موثّقة من الصعب التغاضي عنها. فماذا فعلت السلطة التنفيذية؟ استدعت الكثير من الصحافيين إلى التحقيق بدلاً من أن تستدعي الفاسدين من موظّفي القطاع العام.

قد يشير الإدّعاء إلى أنّ تحقيقات الإعلام اللبناني منحازة إلى هذه الجهة أو تلك، وتجاوز ذلك الإدّعاء سهل، عبر اعتماد مبدأ التوسّع بالتحقيق لكلّ ملفّ مدعّم بالوثائق والمستندات. من حسنات ما حدث خلال العام الماضي أنّ الفاسدين من كلّ الجهات بدأوا بفضح بعضهم البعض. تحقيقات المعارضين للعهد وثّقت فضائح الجمارك والطاقة وبواخرها وسدودها الفارغة والفيول المغشوش وتعيينات الأقرباء في وزارة التربية ورحلات وزارة الخارجية السندبادية. ومؤخّراً، بدأ الموالون للعهد بفضح فساد معارضيهم في الأمن والأشغال والأملاك البحرية والمهجّرين والإنماء والإعمار. لم تبقَ وزارة في لبنان لم ينخرها الفساد!

في المحصّلة، لا شك في أنّ الصحافة اللبنانية تمثّل أملاً للخروج من جهنّم. فهي لا تزال تنبض بالحياة بالرغم من ظروفها الصعبة وانعدام التمويل. وبفضل تقارير الصحفيين اللبنانيين، كُشِف الكثير من مكامن الفساد للرأي العام المحلّي وحتى الدولي، والملفّات لم تعد أسراراً.

السؤال إلى العهد وإلى رؤساء المنظومة الذين بلغوا خريف العمر، من يجرؤ منكم على التضحية بالقطط السمان من فاسديكم على أمل استعادة شعبيتكم المهدورة بارتكابات من وثقتم بهم لتولّي الشأن العام؟ من حقّ أنفسكم عليكم ان تختموا حياتكم السياسية بثورة إصلاحية سيذكرها التاريخ لكم، بدل أن تختموها بحماية أزلامٍ فاسدين سرقوا الشعب وأفقروه، وحمايتهم لن تضيف إلى رصيدكم شيئاً.

هناك العديد من قصص الصحافة الإستقصائية التي دخلت التاريخ موثّقة في هذا الكتاب أتمنّى أن تسمح مساحة التحرير مشاركتها معكم.