إيريك بريوار

كيف تتعامل واشنطن مع ماضي إيران النووي؟

28 كانون الأول 2020

المصدر: War On The Rocks

02 : 01

جو بايدن وآراؤه حول العلاقات مع إيران
بعد اغتيال رئيس البرنامج النووي الإيراني السابق في الشهر الماضي وتهديدات إيران بالانتقام، اتّضح مجدداً مدى سهولة أن تتصاعد الاضطرابات في الشرق الأوسط. كان المراقبون محقين حين اعتبروا أن الجهة المعتدية (إسرائيل على الأرجح) اتخذت هذه الخطوة رغبةً منها في تعقيد خطة الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن بإعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني. لكن قد تكون معظم هذه الأحداث إثباتاً واضحاً على أن شبح برنامج الأسلحة الإيراني لا يزال يطارد الزمن الحاضر رغم إلغائه منذ أكثر من 15 سنة.

بالنسبة إلى إدارة بايدن الحريصة على تجديد الاتفاق النووي، قد يكون إقناع طهران بإعادة برنامجها النووي إلى وضعه السابق أسهل جزء من خطتها. أعلنت طهران مراراً أنها ستُجدد التزامها باتفاق العام 2015 الذي انسحب منه الرئيس دونالد ترامب (أي "خطة العمل الشاملة المشتركة") إذا قامت الولايات المتحدة بالمثل. لكن تتعلق أصعب مهمة على الأرجح بتحديد طريقة التعامل مع ماضي إيران النووي.

كان البرنامج السابق عبارة عن جهود إيرانية متفانية وخفية لإنتاج سلاح نووي مُوجّه بالصواريخ. تكشف الأدلة المتاحة أنه امتد بين فترة التسعينات والعام 2003، ثم اضطرت إيران لإلغاء البرنامج بعد اكتشاف مواقع نووية حساسة وتصاعد ضغوط المجتمــع الدولي على طهران.

لكن رغم تكثيف الجهود الدولية على مر السنين، لم تعترف إيران حتى الآن بأي تفاصيل عن برنامج التسلّح السابق. سيكون فهم السبب أساسياً لتطوير استراتيجية واقعية والاستفادة من ذلك الماضي خدمةً للأهداف الأميركية. مـــن الناحية الإيجابية، تسـتطيع الولايات المتحدة حتى الآن أن تمنع تصنيع قنبلة إيرانيــة، حتى لو رفضت إيـران الاعتراف بأسرارها النووية المدفونة.

برنامج إيران السابق

لا يزال مهماًما الذي يجعل برنامج التسلّح الذي تخلت عنه إيران مهماً بالنسبة إلى السياسة الأميركية؟ تبرز ثلاثة أسباب أساسية.

أولاً، ظهرت أسئلة جديدة حول تلك النشاطات الماضية في العام 2018، بعدما استولت إسرائيل على مجموعة وثائق من إيران تُعرَف باسم "الأرشيف النووي" وتشمل تفاصيل جديدة عن البرنامج السابق. في آخر سنتَين، لم تكن إيران مستعدة للتعاون لتبديد مخاوف المفتشين الدوليين، علماً أن هؤلاء المفتشين أنفسهم اعتبروا الأجوبة الإيرانية غير جديرة بالثقة. لا تخشى الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً أن تكون إيران اليوم بصدد تصنيع قنبلة سراً، بل تتعلق المخاوف الأساسية بامتناعها عن تنفيذ واجباتها الأساسية بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي عبر إخفاء نشاطاتها السابقة، بما في ذلك تحركات شملت مواد نووية غير معلنة. من المتوقع أن تستمر هذه المخاوف والأسئلة بعد وصول بايدن إلى سدة الرئاسة.

ثانياً، يجب أن تُجمَع معلومات دقيقة حول نطاق النشاطات الإيرانية الماضية وما يفعله المشاركون السابقون في ذلك البرنامج راهناً لرصد أي جهود متجددة للتسلح. عرضت تقارير وزارة الخارجية الأميركية تفاصيل عن إقدام بعض العلماء المشاركين في البرنامج السابق على العمل في معهد بحثي جديد بقيادة رئيس البرنامج محسن فخري زاده إلى حين اغتياله، حتى أنهم شاركوا في نشاطات مرتبطة ببرنامج التسلّح.

ثالثاً، يجب أن تفكر الولايات المتحدة بتأثير هذا البرنامج السابق على جهودها الرامية إلى عقد صفقة نووية (مثل تمديد أحكام الانقضاء وترسيخ أحكام المراقبة وإطالة صلاحيتها) والحفاظ على اتفاق نووي فعال مع مرور الوقت. من المستبعد أن تغيّر إيران موقفها وتعترف بالحقائق، ولم تنتشر جميع الأدلة المرتبطة بماضي إيران علناً على الأرجح، ما يعني أن المفاجآت ممكنة دوماً. كيف تستطيع الولايات المتحدة أن تقيم توازناً سليماً بين السيطرة على المخاوف المرتبطة بماضي إيران وحماية اتفاقٍ ينجح في احتواء البرنامج الإيراني في الوقت الراهن؟ وما هو تأثير تلك المخاوف على مسار المفاوضات بشأن أي اتفاق لاحق؟ ما من أجوبة بسيطة أو مباشرة على هذه الأسئلة، لكنها مسائل بالغة الأهمية.


لماذا لم تعترف إيران بعد؟


يزعم المسؤولون في إدارة ترامب ومنتقدو الاتفاق النووي أن وجود ذلك الأرشيف يثبت استحالة الوثوق بإيران ويبرر قرارهم بالتخلي عن الاتفاق. ألمح هذا المعسكر أيضاً إلى استمرار برنامج التسلح الإيراني حتى اليوم لكن من دون تقديم أي أدلة واضحة. لهذا السبب، أصرّت إدارة ترامب على ضرورة أن تعترف إيران بالحقائق وتكشف أسرار ماضيها النووي قبل عقد أي اتفاق مستقبلي. اعتبر مسؤولون سابقون في إدارة ترامب ومنتقدون آخرون للاتفاق النووي حديثاً أن المخاوف من حصول نشاطات نووية سرية يجب أن تكبح أي خطط يحضّرها بايدن للعودة إلى الاتفاق.

لكن لا يمكن اعتبار مقاربة ترامب المبنية على مبدأ "كل شيء أو لا شيء" خطة عملية ومن المستبعد أن تنجح أصلاً لثلاثة أسباب.

أولاً، يبقى احتمال أن تعترف إيران بالحقائق ضئيلاً جداً. تظن إيران أن أي اعتراف تقوم به، مهما كان متكاملاً، سيُعتبَر غير كافٍ ويُمهّد لتدقيق دولي إضافي وتصاعد الضغوط من الولايات المتحدة والغرب بدل تراجعها. هذه المخاوف مبررة. انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق رغم الامتثال الإيراني لبنوده (قد تُكرر أي إدارة جمهورية مستقبلية هذا التصرف إذا نجح بايدن في العودة إلى الاتفاق) ويحظى مبدأ تغيير النظام بشعبية واسعة حتى الآن في بعض الأوساط السياسية الأميركية. كذلك، تخشى إيران أن تحصل اغتيالات أخرى إذا قررت تقديم لائحة بأسماء العلماء. لهذا السبب، من المتوقع أن تتابع إيران التجاوب مع مخاوف الوكالة الدولية للطاقة الذرية بطريقتها المعتادة، فتستعمل خليطاً من الإنكار والتجاهل، وتقدّم معلومات جزئية أو مفبركة، وتتخذ الخطوات اللازمة للتخلص من الأدلة التي تدينها.

ثانياً، يتطلب الاعتراف بالحقائق أن تنقلب إيران على خطابها المدروس الذي طوّرته على مر السنين حيث تعتبر جميع الأدلة ضدها مفبركة وجزءاً من المؤامرة الأميركية الإسرائيلية لمتابعة الضغط على طهران. سيضطر المرشد الأعلى علي خامنئي في هذه الحالة للاعتراف بالكذب على الرأي العام الإيراني أو يزعم أن برنامج الأسلحة تطوّر من دون علمه. لن يكون أيٌّ من هذين الخيارَين مناسباً لرجلٍ حرص على طرح نفسه كحاكم قوي وفاضل وله سلطة دينية.

أخيراً، فضّلت إيران على الأرجح أن تخفي جزءاً من المعلومات والقدرات المرتبطة ببرنامجها السابق لأنها أرادت الحفاظ على خيار تصنيع سلاح نووي مستقبلاً. يجب ألا يخلط أحد بين هذه المقاربة المعروفة في المجال النووي بـ"استراتيجية التحوط" ووجود نيّة حقيقية بتصنيع أسلحة نووية. لا يسهل تغيير العوامل التي تطرح مجازفات كبرى (منها الشكوك الاستراتيجية والسياسات المحلية). لم يتخذ المرشد الأعلى الإيراني قراراً بالتسلّح نووياً على غرار كوريا الشمالية، لكنه لا يريد طبعاً أن يواجه مصير الزعيم الليبي السابق معمر القذافي الذي تخلى عن برنامجه النووي بموجب اتفاق مع الغرب قبل أن يُقتَل خلال عملية عنيفة لإسقاط نظامه غداة تدخّل حلف الناتو في الحرب الأهلية هناك.

أي خيارات أمام بايدن؟

يجب أن تُخفّض إدارة بايدن سقف توقعاتها حول ما تستطيع تحقيقه لإجبار إيران على الاعتراف بماضيها. لن تكون محاولة دفع إيران إلى الاعتراف بتفاصيل برنامجها السابق مقاربة عملية، حتى أن هذه الخطوة ليست ضرورية لتحقيق الهدف الأميركي بمنع إيران من اكتساب أسلحة نووية. لا داعي كي تعرف الولايات المتحدة كل شيء عن ماضي إيران، لكن يجب أن تكتشف ما يكفي من المعلومات كي تتأكد من أن إيران تعجز عن تصنيع قنبلة من دون اكتشاف أمرها في الوقت الراهن. يمكن بلوغ هذه المرحلة عبر إجراء عمليات تفتيش دولية والاتكال على الاستخبارات الأميركية والدولية وتحسين مستوى المراقبة بموجب الاتفاق النووي الإيراني. لكن لم تتحدد بعد الدرجة "الكافية" من هذه التدابير نظراً إلى غياب الأدلة المثبتة في هذا المجال. قد تظهر أدلة طارئة حول الخداع الإيراني في مرحلة معينة، فيتم اكتشاف منشأة تخصيب سرية مثلاً أو يتأكد استئناف جهود التسلّح. لكن لا شيء يثبت حتى الآن أن هذه المرحلة وشيكة.

أخيراً، يجب ألا تستغل واشنطن احتمال استئناف الاتفاق النووي الذي كان مفيداً على بعض المستويات لمحاولة اكتشاف جميع أسرار الماضي الإيراني النووي لأنه هدف مستحيل. لقد أثبتت السنوات الأربع الماضية أن الولايات المتحدة تستطيع التأثير على مسار إيران النووي إذا كانت جزءاً من الاتفاق أكثر مما تفعل حين تنسحب منه. لا شك في أن الضغط الدولي على إيران بسبب أرشيفها النووي له منافع معينة، فقد يدفع طهران إلى التفكير ملياً قبل استئناف جهود التسلح ويشكّل ورقة ضغط مفيدة فيما تتجه إدارة بايدن إلى تجديد الجهود الديبلوماسية مع إيران.

لا تعني هذه التحليلات كلها أن الولايات المتحدة يجب ألا تضغط على إيران لتنفيذ واجباتها، بل إنها خطوة ضرورية. لكن يُفترض ألا تضحي واشنطن بقدرتها على رصد أي برنامج تسلّح إيراني مستقبلي لمجرّد أن تثبت كذب إيران حول ماضيها النووي.


MISS 3