فادي كرم

التمدّد الإيرانيّ صالح للتوازن فقط

4 كانون الثاني 2021

02 : 00

إستطاعت إيران التمدُّد في الدول العربية (أ ف ب)

تشهد المنطقة العربية الممتدّة من الخليج العربي وحتّى المتوسّط، تواجداً إيرانياً إستراتيجياً، عسكرياً وأمنياً وتنظيمياً، ناتجاً عن إمتدادٍ لم يحدث بغفلةٍ من الزمن، بل تدريجياً وتحت رقابة الدول الكبرى، بتنوّع اداراتها وقيادييها. هو امتداد، لم يُحدِث صخباً دولياً مميّزاً، كالضجّة التي تصدر عن مبادراتٍ ومغامراتٍ أصغر وأقلّ أهمّية منه، لأطرافٍ أخرى إقليمية، بل مرّ بسلاسةٍ مُلفِتة بالرغم من خرقه للكثير من حقوق الإنسان في بلاده منذ نشأته، كما في كافة بلدان المنطقة التي تسلّل إليها، من اليمن إلى العراق فسوريا، ثمّ لبنان، مُسبّباً لشعوبها الفقر والويلات والتأخّر.

إنّ غضّ النظر الغربي والشرقي قد أتاح للمخطّط الإيراني التمادي بخرق المجتمعات العربية وزرع الأفكار الفقهية، مُستغلّاً الشرذمة والفرقة والمظالم التي عانت منها هذه المجتمعات نتيجة قمع الأنظمة الحديدية التي حكمتها في القرن الماضي، حيث إستطاع هذا المشروع التوسّعي تشكيل مُنظّماتٍ أمنية وعسكرية، وإتباعها لحرسه الثوري لتعمل بتوجيهاته، كالحُوثييّن، والحشد الشعبي، و"حزب الله"، ومُكلّفاً اياها مهمّة إعاثة الخراب وإضعاف المؤسسات الرسمية لدولها، والتحوّل دُويلاتٍ رديفة للدول التي تنمو فيها، وتعتاش عليها وتمتصّ من خيرات شعوبها.

ومن أكثر الحقائق المُريبة كان الرضى الإسرائيلي وعدم الخشية من هذا التمدّد. ففي الوقت الذي كنا نشهد هلع إسرائيل من تهديداتٍ أقلّ خطورةً منه، نراها مع التحرّكات الإيرانية مهادنةً، عاملةً على تهذيب مسارها وتوجيهها، وليس على شلّها وإنهائها في مهدها، وكأنها تنتظر إفادةً ما من تعاظُمها. في الوقت ذاته، بدا التسلّل الإيراني العسكري مُدرِكاً الخطوط الحُمر المرسومة من القوى الكبرى ومُحترِماً لها، ومستعدّاً للتراجع عن خروقاته لها عند رفع الرايات الحُمر بوجه محاولاته غير البريئة.

إذاً، ما شهِدناه من تجربةٍ للجمهورية الإسلامية في إيران، منذ نشأتها وبِنائها لِقواها الداخلية وتثبيتها لنظامها القمعي، وتأسيسها لأذرعها الإقليمية، دلّ على جرأة مُصانة بضماناتٍ كبرى، وعلى دورٍ مطلوبٍ منها، وعلى تموضُعٍ مُدجَّن.

وبما أنّ قواعد اللعب بين الدول، صاحبة المشاريع التوسّعية، متغيّرة وغير ثابتة، ففي كلّ مرة لمس النظام الإيراني أنّ فائض القوّة على الأرض يميل لصالحه، حاول انتهاز الفرصة لكسر الضوابط الموضوعة عليه، والتحرّر للبدء بتحقيق أطماعه وتطلّعاته، والخروج من الدور المُرضى عنه إلى دورٍ جديد وحدودٍ أخرى. ذلك الطموح أوقعه في الفخّ، فقد فُتحت بوجهه مشاريع أخرى طموحة ومتناقضة معه، مثل مشاريع المنظّمات الأصولية السنّية والمشروع التركي الطموح، وتزامنت معها الضربات العسكرية الإسرائيلية الدقيقة والهادفة، الضرورية لإبقاء التوازنات المطلوبة بين المشاريع المتسابقة لحكم المنطقة، فاستُهدِفَت مواقع إيرانية متقدّمة وإستراتيجية، قد يُِشكّل بقاؤها خطراً متقدّماً على إسرائيل، واستُكملت بضربات أميركية اغتيالية ضدّ مسؤولين أمنيين وعسكريين وذريّين إيرانيين. كلّ ذلك كان ثمن توسّع أحلام إيران وتجرّؤها للخروج من دورها التوازني إلى حلمها التّوسعي.

نعم، إستطاعت إيران التمدُّد في الدول العربية، واستطاعت ايضاً تطويع أربع عواصم عربية، ونجحت برمي القوى الإقليمية الأخرى خارج هذه الدول، أو على الأقلّ، قلّصت من نفوذ الآخرين حيثما حلّت، ولكنها حتماً فتحت على نفسها مجالاً لحروبٍ مُكلفة ضدّها، ولعقوباتٍ على اقتصادها وعلى قواها العسكرية وعلى أذرعها الأمنية، وعلى الدول التي تسلّطت على قراراتها وألحقتها بها. نعم، إستطاعت الجمهورية الإسلامية في إيران فرض نفسها كقوّةٍ إقليمية، تكلّمت عنها إدارات الدول الكبرى ووضعت لها تكتيكاتٍ وإستراتيجياتٍ، وأدخلتها كمادّة من المواد المُتداولة في إنتخاباتها الرئاسية، ولكنّها، أيّ إيران، سقطت في تثبيت سلطانها وإمتداداتها، ولم تنجح بالتحوّل من مشروعٍ توسّعيّ إلغائيّ إلى مشروعٍ تطبيعي صديق.

إنّ ما حقّقه المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة العربية فعلياً، هو الدفع إلى تطبيعٍ من لونٍ آخر، لما كان ممكناً لولا دخول إيران القسري إلى المنطقة، وتهديدها لأمن وسيادات دولٍ وحكّامٍ وأنظمةٍ وإقتصاديات.

فالحلم الإسرائيلي التطبيعي مع الشعوب العربية والإسلامية، الذي لم يكتمل في سبعينات القرن الماضي، بالرغم من إتفاقيات السلام حينَها مع دولٍ عربية كُبرى، ها هوَ يُصبح حقيقةً اليوم، بفضل مشاريع إيران التوسّعية التدميرية، على حساب الدول التي استطاعت التّسلل إليها، وبفضل تحرّك، الدول العربية، التي لم تنجح بتقويضها، من إرث الصراع التاريخي مع إسرائيل. فدخول الحرس الثوري الإيراني الى بعض الدول العربية وسيطرته على قراراتها دفع الدول العربية للإنقسام إلى محورين: المحور المُتصالح والمطبّع مع إسرائيل حيث يختزِن التطوّر والإقتصاد القويّ والإزدهار العلمي والإستثماري، والمحور المُلحق بإيران المُتقدّم بالفقر والتّأخر والقمع والقهر والإنعزال.

أمّا الرهان الإيراني على تغييرات جذرية في السياسات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، مع القيادة الجديدة للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، فيُعدّ رهاناً خاطئاً و"تفكيراً تأمّلياً"، فمن الحتمي أنّ أي إدارة أميركية ستعمل لمصالحها في أيّ نقطة من العالم، وترتبط مصلحتها الدائمة في منطقة الشرق الأوسط بمصلحة حماية إسرائيل واستمرارها وتمكينها من حلّ مشاكل عزلتها، التي أصبحت مزعجة ومكلفة على الإقتصاد الأميركي أيضاً. ففكّ عزلة إسرائيل مع جيرانها العرب أضحى مطلباً أميركياً سياسياً إستثمارياً وشعبياً. وما نشهده اليوم من إنجاز إسرائيلي تاريخي على صعيد فتح المجتمعات العربية والخليجية لها، فرض واقعاً جديداً، لن تستطيع التفاهمات الجديدة التي تطمح إليها إيران مع الإدارة الأميركية تجاوزه، لا بل أصبح الواقع الذي يُشكّل القاعدة التي ستوجّه أي تفاهمات جديدة مع أي نظام في المنطقة.

إنّ المحور العربي المطبّع حديثاً مع إسرائيل بالإضافة الى الدول العربية المتصالحة معها سابقاً، بات يشكّل المنطقة الآمنة لأمنها والسوق المفتوحة لصناعاتها وتقنيّاتها وسلعها، وهذا يعني أن مصلحة إسرائيل أصبحت مرتبطة عضويّاً بمصلحة هذا المحور العربي، بكل صلابةٍ وقوّة، فللمرة الأولى منذ نشأتها، استطاعت إسرائيل تحقيق هدفها الأهمّ، وهو الإندماج مع المجتمعات العربيّة.

أين تكمن إذاً أسس عقد أي تفاهمات إيرانية – أميركية بعد هذا التطوّر الإقليمي الكبير؟ وهل ستُهدّد إسرائيل والإدارة الأميركية معها هذا الإنجاز التاريخي الهدفي بالنسبة لبقائها واستمرارها؟ وماذا تستطيع إيران تقديمه لهما من بدائل ومكتسبات؟

بالطبع، للإجابة عن هذه التساؤلات لا يُعقل مُعاكسة المنطق السياسي السليم، والذهاب الى إستنتاجات تأمّلية، ولذلك نستطيع أن نعتبر أنّ النظام الإسلامي في إيران يقف حالياً أمام خيارين، وقدرته في الحياكة والمناورة وربح الوقت لن تبتدع ثالث لهما، فالخيار الأوّل هو التّوجّه أكثر شرقاً (عكس ارادته الدائمة) ممّا يعني مصائب أكثر عليه، وفقراً أقسى على شعبه، وإنكماشاً أخطر لإقتصاده، وإنعزالاً أصعب على تموضعه، ويعني أيضاً فقدانه لأيّ أملٍ للوصول الى تسوياتٍ إقليمية ونووية وإقتصادية مع الجبّار الأميركي، علماً أنّ التّفاهمات، إن كانت شرقاً او غرباً، فهي بحاجةٍ دائماً لصيانات، وفقط اللاعب الأميركي يملك هذه الإمكانيّات، كما أنّ عواقب اختيار النظام الايراني لهذا المسار، هي الدفع لأنظمة عربية أخرى للإنضمام الى محور التطبيع، كسوريا مثلاً. أمّا الخيار الثاني، فسلوك النظام الإيراني مسار التطبيع بنفسه جالباً معه أنظمة مُلحقة قسراً به، كالعراق واليمن وسوريا ولبنان.

يُدرك القادة الإيرانيون حاجتهم لسلوك طريق التفاهم مع الإدارة الأميركية وإسرائيل، فنيّتهم لم تكن يوماً غير ذلك، فهل استمرارهم بسياساتهم التوسّعية والتسلّطية على شعوب الدول المُشرّعة لتدخّلاتهم، ستبقى الورقة الوحيدة المُستعملة التي يملكونها لخدمة إسرائيل؟

فكفى سذاجةً ومزايدةً من أتباع إيران في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وليتركوا شعوب هذه الدول، تعيش بسلام.