قدري تاستان

تأثير إدارة بايدن على العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي

8 كانون الثاني 2021

المصدر: The German Marshall Fund of the United States

02 : 01

بايدن وأردوغان خلال مؤتمر في أنقرة - تركيا / 2016 (أرشيف)
بعد تصاعد التوتر في العلاقات العابرة للأطلسي طوال السنوات الماضية، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتنفس الصعداء أخيراً غداة فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية. لا يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يحنّ إلى عصره الذهبي على الأرجح، لكن يبدو أنه قادر على التعاون مع إدارة بايدن المرتقبة أكثر من إدارة ترامب في مسائل متنوعة، بما في ذلك علاقاته مع تركيا.

لا يُعتبر ابتعاد تركيا عن الغرب اليوم سيناريو مثالياً لأي طرف. ولمنع ابتعادها بدرجة إضافية، يواجه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تحديات متشابهة.

سيتذكر الجميع السنوات الأربع الماضية باعتبارها عهد العزلة للاتحاد الأوروبي في منطقة تزداد اضطراباً وفي عالمٍ متعدد الأقطاب. تمكنت أنقرة من تطبيق سياسة خارجية عدائية وعسكرية في المنطقة المحيطة بها بسبب فراغ السلطة الذي خلّفته الولايات المتحدة هناك. نتيجةً لذلك، أدت التحركات التركية في سوريا وليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط ثم ناغورنو كاراباخ في الفترة الأخيرة إلى تعميق الشرخ مع الاتحاد الأوروبي. يظن الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن العلاقات الأوروبية التركية اليوم وصلت إلى نقطة مفصلية.

بعد فوز بايدن، تغيّر المزاج العام في أنقرة وبروكسل على ما يبدو. يحتفل الاتحاد الأوروبي بعودة رئيس مستعد للتعاون معه في الشؤون العالمية. أعلن بايدن حديثاً أن الولايات المتحدة يُفترض أن تسترجع دورها القيادي في مجالات متنوعة وتتعاون مع حلفائها عن قرب. كذلك، كان اختيار أنتوني بلينكن الذي يتكلم اللغة الفرنسية بطلاقة ويدعم التعاون مع أوروبا والجهود متعددة الأطراف كوزير للخارجية خبراً ساراً لبروكسل. من المتوقع أيضاً أن يتراجع أثر العلاقات الشخصية في صناعة السياسة الأميركية ويزيد التماسك بين البيت الأبيض والكونغرس ووزارتَي الخارجية والدفاع. بعبارة أخرى، ستصبح الترتيبات التي تحصل في اللحظة الأخيرة باسم الرئيس نادرة، وسيمهّد تعزيز دور المؤسسات لتكثيف التعاون المنظّم مع الاتحاد الأوروبي على مختلف الجبهات.

ستحاول إدارة بايدن أن تنسّق جهودها مع الاتحاد الأوروبي في ملفات متنوعة، علماً أن جزءاً كبيراً منها يهمّ تركيا مباشرةً أو يؤثر عليها. لذا قد تقوّي الإدارة الجديدة مكانة الاتحاد الأوروبي في علاقته مع تركيا على ثلاث جبهات أساسية.



تقوية التحالف الغربي والمؤسسات متعددة الأطراف

ستقوّي إدارة بايدن التحالف الغربي منذ البداية. كان غياب الوحدة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أبرز العوامل الكامنة وراء فراغ السلطة الذي حاولت جهات كثيرة أن تملأه، بما في ذلك تركيا. سيدافع بايدن عن العلاقات العابرة للأطلسي، ما يعني أن تركيا لن تستفيد بعد الآن من الشرخ القائم بين واشنطن وبروكسل. ستتضح مظاهر الوحدة الغربية أيضاً عبر تقوية المؤسسات متعددة الأطراف، بدءاً من حلف الناتو.

يُعتبر بايدن داعماً تقليدياً لسياسة التعاون الدولي ويحمل تعاطفاً واضحاً تجاه المؤسسات متعددة الأطراف. لذا من المتوقع أن يبذل الجهود اللازمة لتقوية حلف الناتو وإعطائه طابعاً سياسياً مضاعفاً. تتعدد المسائل المثيرة للجدل اليوم بين تركيا وحلفائها داخل الناتو: توتر العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب شراء الأنظمة الدفاعية الصاروخية "إس - 400" من روسيا، وتوتر العلاقات مع اليونان وفرنسا في شرق البحر الأبيض المتوسط وأماكن أخرى، والسياسة الخارجية التركية التي زادت عدائية في المنطقة، وتقرّب أنقرة من روسيا. لن يحلّ انتخاب بايدن هذه المشاكل تلقائياً، بل ستستمر الانقسامات والاضطرابات داخل الناتو في المرحلة الأولى. لكن قد تتشجع تركيا على تسوية مشاكلها مع حلفائها بعد تقوية الحلف.

كان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية في ظل تفشي فيروس كورونا من أبرز الأمثلة على الأضرار الهائلة التي أحدثها ترامب في مجال الالتزامات الأميركية متعددة الأطراف. كانت تركيا تواجه مشاكلها الخاصة في المفاوضات حول التغير المناخي، لكنّ موقف ترامب دفعها على الأرجح إلى عدم المصادقة على الاتفاق. اليوم قد تتشجع تركيا على إقرار الاتفاق بعد عودة الولايات المتحدة إليه، ما يعطي أنقرة والاتحاد الأوروبي منصة مناسبة للتعاون معاً ومواجهة هذا التحدي العالمي.

تكثيف المشاركة الأميركية في جوار الاتحاد الأوروبي

كان توجّه الولايات المتحدة نحو محور آسيا قراراً يدعمه الحزبان الجمهوري والديموقراطي وسيبقى التعامل مع الصين من أبرز التحديات التي تواجهها واشنطن في مجال السياسة الخارجية. لكن من المستبعد أن تطغى هذه الجهود على الاهتمام التقليدي بالأمن ومكافحة الإرهاب. في هذا الإطار، يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يتوقع مشاركة ناشطة من الولايات المتحدة في جواره، أي في أماكن كثيرة تنشط فيها تركيا مثل سوريا وليبيا وناغورنو كاراباخ. ومن المتوقع أن تستأنف إدارة بايدن جهود التصدي لروسيا التي تؤدي دوراً محورياً في هذه المناطق. على صعيد آخر، ستزيد قوة الاتحاد الأوروبي عند تعامله مع الاضطرابات الحاصلة في شرق البحر الأبيض المتوسط. من المتوقع أن تفرض الولايات المتحدة ضغوطاً قوية على تركيا للتأثير على علاقتها مع قبرص واليونان. كانت واشنطن تطبّق تقليدياً مقاربة أكثر توازناً في هذا الملف لكن يبدو أنها بدأت تتخذ الآن موقفاً أكثر دعماً لليونان. زادت أهمية العلاقات مع أثينا بنظر واشنطن لأن اليونان تُعتبر جهة احتياطية داعمة للقواعد الأميركية في حال تدهورت العلاقات مع تركيا بدرجة إضافية. كذلك، يهتم بايدن منذ وقت طويل بمسألة قبرص ومحاولات تركيا تغيير وضع المراوحة هناك عبر التشجيع على فتح شاطئ "فاروشا" المغلق، وهو لا يرحّب بِحَلّ الدولتين. يستطيع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن يتعاونا لإقامة حوار مع تركيا في شرق البحر المتوسط.



زيادة التركيز على الديموقراطية وحُكم القانون وحقوق الإنسان

تعهد بايدن بأن تستدعي إدارته الدول التي تحمل العقلية نفسها للمشاركة في "القمة من أجل الديموقراطية" لمحاربة الفساد والاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان. ومن المتوقع أن تتأثر المعايير الديموقراطية التي يستعملها حلفاء واشنطن عند اتخاذ أي قرار برغبة إدارة بايدن في تسليط الضوء على التداخل بين السياسات المحلية والخارجية. على مستوى الخطابات على الأقل، سيتخذ هذا البُعد أهمية معينة في السياسة الخارجية خلال الإدارة المقبلة.

لطالما أعطت الإدارات الأميركية الأولوية للعلاقة الأمنية مع تركيا. لهذا السبب، بقيت المعايير الديموقراطية أو سجلات حقوق الإنسان في أنقرة ثانوية بالنسبة إلى واشنطن. لكن قد تتشجع إدارة بايدن على تكثيف جهودها في هذا المجال بعد تجربة ترامب والأضرار التي ألحقها بالمؤسسات الديموقراطية في الولايات المتحدة. بعبارة أخرى، ستكون الإدارة الجديدة أكثر صرامة في مواقفها حول التراجع الديموقراطي وإضعاف حُكم القانون والحقوق الأساسية والحريات.

في هذه المسألة أيضاً، تحدى ترامب الاتحاد الأوروبي لأنه ليس مقتنعاً به وتربطه علاقات أفضل مع الحكام المستبدين حول العالم. من الواضح أن التغيّر المنتظر في عهد بايدن سيقوي مكانة الاتحاد الأوروبي ضد تركيا. قد يرفع الاتحاد الصوت مجدداً إذا حظيت هذه الأجندة بدعمٍ ناشط من الولايات المتحدة أيضاً وقد يصبح "نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي العالمي لحقوق الإنسان" الذي تم إقراره حديثاً (نسخة أوروبية من "قانون ماغنيتسكي") منصة للتعبير عن هذا التوجه.

خــــــلاصــــــة

خسرت تركيا معظم أصدقائها في واشنطن والعواصم الأوروبية. لكنّ غياب التنسيق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في آخر أربع سنوات أضعف السياسة المعتمدة تجاه تركيا. يمرّ الطرفان اليوم بمرحلة من المراجعة الذاتية لتقييم علاقاتهما مع تركيا. هما مضطران للاختيار بين التعاون في المسائل التي تحمل مصالح مشتركة للفريقَين وخوض مواجهة مباشرة. من المتوقع أن يدرك بايدن وأعضاء فريقه أهمية تركيا في حلف الناتو وألا يحاولوا مواجهتها منذ البداية. لكنهم سينشغلون حتماً بمسائل كثيرة أخرى نظراً إلى تراكم المشاكل في السنوات الأخيرة. في غضون ذلك، يرتبط موقف الاتحاد الأوروبي تجاه تركيا بمصالح الدول الأعضاء التي تحمل آراءً متضاربة حول معنى التعاون والصراعات.

لن يتأثر مستقبل العلاقات بين تركيا والغرب بسياسات الرئيس رجب طيب أردوغان فحسب، بل إنه يتوقف أيضاً على مقاربات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. هل سيختار الطرفان التكيّف مع طموحات تركيا المتوسّعة أم مواجهتها بسبب تدهور الديموقراطية فيها اليوم أو سياستها الخارجية العدائية؟ في مطلق الأحوال، ستكون السياسات المبنية على التعاون الأكثر فعالية بغض النظر عن الخيار النهائي. لكن لن يؤدي تكثيف التعاون العابر للأطلسي بالضرورة إلى حلّ المشاكل القائمة ما لم يضع الاتحاد الأوروبي استراتيجية مشتركة حول مستقبل علاقاته مع تركيا، علماً أن هذا النوع من الاستراتيجيات يتطلب مستوىً من الابتكار من الجانب الأوروبي. لا تقضي الاستراتيجية المناسبة بتكليف الولايات المتحدة بالتعامل مع ابتعاد تركيا عن الغرب، بل بوضع سياسات مشتركة تزامناً مع إطلاق نزعة تعددية جديدة وشاملة.


MISS 3