جاد حداد

Mary Magdalene... مريم المجدلية كما لم نرها

16 كانون الثاني 2021

02 : 00

يتمحور فيلم Mary Magdalene (مريم المجدلية) من إخراج غارث ديفيس وكتابة هيلين إدموندسون وفيليبا غوسليت حول تفاني أتباع المسيح ومعاناتهم انطلاقاً من تجربة امرأة. تؤدي روني مارا دور البطولة بسلاسة وهدوء، فتُجسّد شخصية "مريم" التي تجد مكانتها في العالم وتدعم قضية تسمح لها بالتعبير عن أعمق تعاطفها مع الغير. لم تكن هذه المرأة مجرّد مراقِبة للأحداث بل إن تعاليم المسيح حملت لمسة أنثوية وفق هذا الفيلم.

في بداية الفيلم، توشك "مريم" على اتخاذ قرار حاسم بشأن حياتها. هي لا تريد الزواج وإنجاب الأولاد بكل بساطة كما يتوقع منها والدها وأشقاؤها. في الوقت نفسه، لا تلقى "مريم" الترحيب بقدر الرجال في مساحات العبادة رغم أهمية الإيمان في حياتها. يستنتج والدها وأشقاؤها أنها تحتاج إلى جلسة لطرد الأرواح الشريرة منها بالقوة ويكادون يقتلونها غرقاً. تجد "مريم" مخرجاً لوضعها حين يحضر معالج اسمه "يسوع" (خواكين فينكس) إلى البلدة، فتُقرر أن تصبح جزءاً من أتباعه. لا تشبه علاقة "مريم" به أي علاقات أخرى تجمعه مع الرجال، بما في ذلك "بطرس" (شيوتيل إيجيوفور) و"يهوذا" (طاهر رحيم)، لأنها تفهم أن المملكة التي يتكلم عنها "يسوع" لا تعني سفك دماء الرومان بل نشر الحب.

لا يشمل الفيلم أي معلومات مختلفة عن المسيح وتلاميذه بل تتماشى أفكاره مع تلك التي يعرفها كل من درس هذه القصة تاريخياً. يتبع الناس المسيح بعدما يجترح العجائب، منها إعادة إحياء رجل ميت. يستعمل غريغ فرايزر في هذه المشاهد تقنيات تصوير مؤثرة تجعل المشاهدين يتفاعلون مع الحشود الهستيرية التي تشمل عدداً من المؤمنين الجدد. وحين يتكلم أتباع "يسوع" بأعلى الصوت ويعتبرونه "المسيح" المنتظر، يقرر الرومان صلبه. يركّز المخرج ديفيس تدريجاً على "يسوع" من دون أن يتجاهل شخصية "مريم"، فيخلق ركيزة قوية من التعاطف المؤثر حيث تتكل معظم المشاهد على مشاعر المتلقي عند رؤية أعمال الرحمة التي تقوم بها الشخصيات. لا مفر من أن يتجاوز الجمهور الأفكار المعروفة عن هذه القصة ويتأثر بتفاصيل الحكاية نظراً إلى جمالها الغريب: إنها قصة حركة راديكالية يقودها رجل مُعذّب يجيد انتقاء كلماته ويتكلم عن مملكة يستطيع البشر تحويلها إلى حقيقة.





تقدم مارا أداءً ممتازاً في هذا الدور الذي يسلّط الضوء على دقة تمثيلها وقوة ردود أفعالها. قد تكون من أكثر الممثلين هدوءاً في الفيلم كله، لكنّ هذه الصفة لا تُضعِف أداءها بأي شكل. في لحظات التأمل العميقة، تعكس هذه الممثلة مشاعر داخلية صادقة ومثيرة للاهتمام، فلا تكفّ عن الإصغاء والمراقبة. لكن حين يزيد تركيز المخرج عليها وتبدأ بالتفاعل مع التلاميذ المبتهجين أو "يسوع" المظلوم، تتطور هذه الشخصية بكل وضوح في أجواء صامتة بشكل عام. تقدّم مارا مشهداً عاطفياً جداً حيث تعتني مع "بطرس" بأشخاص على وشك الموت من الجوع، فتكون الرحمة التي تُظهرِها "مريم" في هذه اللقطات مدهشة بمعنى الكلمة.

يُعتبر فينكس من أفضل الممثلين الذين قدموا شخصية "يسوع" على الإطلاق، فيجسّد في هذا الفيلم دور إنسان يعيش عذاباً حقيقياً بسبب مظاهر القوة والحكمة التي تعمل من خلاله. تعكس لغة جسده تفاصيل مدهشة، فيتفوه بكلمات واضحة رغم صوته الخافت وأسنانه المُطبَقة ويُرجع رأسه إلى الوراء أثناء إلقاء العظات وكأنه يحاول الحفاظ على توازنه. يجسّد فينكس هذه المرة دور قائد يتمتع بقوة هائلة وراء عينيه الحادتَين وكلماته الدقيقة ويجترح المعجزات وكأنها جزء من طبيعته.

تسود أجواء هوسية قوية داخل الفيلم ويمتد ذلك الهوس إلى الرؤية التي تحملها الشخصيات عن الحركة التي تشارك فيها. يكرر الممثلان شيوتيل إيجيوفور وطاهر رحيم (يستطيعان أن يؤديا وحدهما أدوار البطولة في قصص أخرى من الكتاب المقدس) كلمات الرسل التي نعرفها، لكنهما يستعملان أسلوباً حماسياً مفرطاً لدرجة أن يظهرا وكأنهما ثمِلان أحياناً. يتوق هذان الرجلان إلى معالجة ألمهما وتكتشف "مريم" من خلال أحاديثها الهادئة معهما أن حياتهما باتت تتمحور حول مملكة حقيقية بقدر إيمانهما. هذا الجانب من القصة ليس انتقاداً للرسل، بل إنه تجسيد صادق لعبادة شاملة ومثال آخر على حجم التعاطف الذي تحمله "مريم المجدلية" تجاه الشخصيات الأخرى في هذه القصة والمعنى الذي ترمز إليه هذه المشاعر.

يستعمل ديفيس أقدس التعابير السينمائية، منها "الساعة السحرية" (أي الفترة التي تتراوح بين الليل والنهار، حين تصطبغ السماء بخليط من الألوان المائية مثل البنفسجي والبرتقالي والزهري)، فيقدّم نوعاً من الجمال المعقّد قبل أن ينتقل إلى أجواء قاتمة أو ساطعة. تكمن قوة الفيلم في مناظره التي تشمل أكواخاً قاحلة وأزياءً أحادية الألوان، ما يسمح بتقدير قيمة الضوء الطبيعي واعتباره شكلاً من التعبير. حين تتكلم الشخصيات فوق منحدرات هادئة أثناء هبوط الليل، وهو مشهد متكرر في هذا العمل، لا مفر من أن يزيد تعلّق المشاهدين بالأحداث والأجواء العامة.

أخيراً، تكثر المشاهد الخفيفة والجاذبة في هذا الفيلم الذي يجمع بين أساليب إخراجية متنوعة وحيوية ويضعها في إطار سينمائي واحد.