طائرات بلا طيار أولاً ثم صواريخ... الأسد يطارد المدنيين في إدلب

12 : 00

القوات السورية تستهدف المدنيين في إدلب بالطائرات بلا طيار والمروحيات المقاتلة. بعدما كانت إدلب آخر معقل للثوار المعارضين للنظام، أصبحت اليوم في قبضة بشار الأسد. وحتى تركيا التي كانت تحمي الثوار سابقاً تعجز عن تقديم المساعدة...

بالنسبة إلى سمير بري، حتى جلب الخبز يُعرّضه للموت! لم يشأ هذا المهندس أن يغادر بلدته خان شيخون في إدلب، لكن حوّلتها قوات الأسد إلى منطقة موت. يقول بري الهارب عبر الهاتف، مع ضحكة مريرة: "راحت المروحيات المقاتلة أو الطائرات بلا طيار ترصد كل من يتجول في الشوارع نهاراً وتطلق النار عليه، وكل من يخرج ليلاً ويشعل أي ضوء. كان آخر متجر يبيع الخبز يفتح خلال الليل فقط".

حين وقع صاروخ على بُعد أمتار قليلة من منزله في بداية شهر آب، كان في الخارج لشراء الخبز. وعند عودته، شاهد زوجته وابنه المرعوبَين يختبئان تحت السلالم. في صباح اليوم التالي، هربوا جميعاً إلى شمال المحافظة، باتجاه بلدة لم تتعرض للهجوم حتى الآن إلا في مناسبات نادرة.

كان آخرون أقل حظاً منه: غادر مزارع الفستق نجيب سرماني المدينة. لكن رصدته طائرة بلا طيار في مزرعته. وبعد وقت قصير، أطلقت عليه طائرة مقاتلة النار وأصابته في ساقه. أراد نسيبه نقله إلى مكان آمن، لكن حين عادت الطائرة، لم يستطع سرماني المشي فقُتِل تحت وابل من الطلقات النارية.

غادرت المعلمة فاتن كيراوان خان شيخون بدورها، لكنها عادت لوقتٍ قصير في الأسبوع الماضي لجلب بعض الملابس. وبعدما دخل شقيق زوجها في منعطف خاطئ في الظلام، أشعل المصابيح الأمامية. وحين أوقف السيارة وخرج منها، استهدفهما صاروخ. هذا ما يقوله طاقم أطباء الطوارئ على الأقل.

ضربات مستهدفة

منذ الربيع الماضي، تهاجم دبابات الجيش السوري والطائرات المقاتلة التابعة للقوات الجوية السورية والروسية آخر معقل للثوار في إدلب، في شمال غربي البلاد. تحوّلت آخر عيادة طبية في خان شيخون والمخابز ومحطة ضخ المياه إلى أنقاض. وغادر المدينة جميع السكان تقريباً (80 ألف نسمة)، فضلاً عن 30 ألف نازح في الداخل.

لكن منذ بداية شهر آب، يطارد المهاجمون الناس عمداً. تنتشر الطائرات بلا طيار فوق المدينة طوال الوقت وتتعقب تحركات المشاة وسائقي الدراجات النارية. يمكن استهداف الناس بالطائرات المقاتلة خلال أقل من دقيقة واحدة! يرسل الأسد أيضاً قوات إضافية إلى المنطقة وتشكّل جزءاً من أهم وحداته: "قوات النمر" التابعة للحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة. كذلك، سلّمته روسيا معدات جديدة، منها تقنيات لتسهيل الرؤية الليلية. وللمرة الأولى منذ أشهر، انتشر مقاتلون من "حزب الله" اللبناني والوحدات الإيرانية على الجبهة، في شرق خان شيخون. لكن لا توضح اتصالاتهم إلى أي حد يشاركون في القتال.

بعدما هاجمت قوات الأسد الجوية خان شيخون في العام 2017 بغاز السارين، ما أسفر عن مقتل أكثر من 90 شخصاً، أمر الرئيس الأميركي ترامب بقصف المطار العسكري. وحين دمّر النظام المدينة من دون استعمال أسلحة كيماوية، فقتل بذلك 130 مدنياً، شاهدت بقية دول العالم ما يحدث من دون تحريك أي ساكن. يوم الثلاثاء الماضي، انسحب آخر الثوار من خان شيخون. وفي فترة بعد الظهر من يوم الأربعاء، دخل إليها الجنود المنتصرون. وبحلول المساء، طوّقوا كامل المنطقة التي شملت بلديات متعددة وقاعدة عسكرية تركية فيها 200 جندي، لكنها خلت من السكان ومعظم الثوار.

من يحتاج إلى الأعداء؟

شكّل استرجاع خان شيخون انتصاراً للأسد، لكنه أعلن في المقام الأول عن انتهاء صراع السلطة بين حاكمَين استبداديَين يتصارعان على تقرير مصير إدلب: بوتين الداعم للأسد، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، آخر حليف دولي للثوار الإسلاميين.

عارض أردوغان الأسد منذ بداية الحرب الأهلية، لكن لم تعد حرية السوريين من أولوياته بعد فترة قصيرة. بدءاً من منتصف العام 2016، توغلت القوات التركية في محافظة حلب الشمالية وأرادت ظاهرياً محاربة "الدولة الإسلامية". لكن بعد انهيار "داعش"، لم تغادر تلك القوات موقعها، بل فتحت مجموعة من المكاتب الإدارية والبنوك، وحتى مكاتب بريد تركية. تعاونت هذه الجهات في ما بينها لضم الأرض إليها بكل هدوء.

يريد أردوغان الآن الدفاع عن إدلب لسبب آخر: إذا اقتحمت قوات الأسد تلك المحافظة، ستطلق دفعة جديدة من اللاجئين نحو تركيا. سيكون هذا السيناريو مريعاً بالنسبة إلى الحكومة التركية التي تعرضت أصلاً لضغوط هائلة من الناخبين بعد استضافة 3 ملايين ونصف المليون لاجئ سوري. بدأت أنقرة تُرحّل اللاجئين إلى إدلب حديثاً.

أما بوتين، فيعتبر إدلب أداة للضغط على تركيا وحثّها على إضعاف علاقاتها بحلف الناتو.

في شهر أيلول الماضي، اتفقت موسكو وأنقرة على وقف إطلاق النار في إدلب. في تلك الفترة، رفضت روسيا المشاركة في عملية هجومية مشتركة هناك إلى جانب الأسد. كانت تلك المساعي تهدف إلى نزع سلاح "هيئة تحرير الشام" (جماعة الثوار المعروفة سابقاً بـ"جبهة النصرة" وكانت مقرّبة من تنظيم "القاعدة") وتدميرها.

لكن حصل العكس، فأصبحت "هيئة تحرير الشام" أقوى جماعة في إدلب. لم يتمكن الجيش التركي والجهاز الاستخباري من كبح مسار المتطرفين، أو لم يرغبا في ذلك أصلاً. في مطلق الأحوال، تعددت الفرص التي سمحت بتدمير تلك الحركة، حتى أن جماعات متمردة عدة طلبت بكل يأس المساعدة لمحاربتها. لكن يبدو أن أردوغان أراد استعمال المجاهدين المتمرسين بالقتال كأداة احتياطية في معركة تهمّه أكثر من التصدي للأسد: الحرب على "حزب العمال الكردستاني"، أي الأكراد الانفصاليين الذين سيطروا على شمال شرقي سوريا بمساعدة الولايات المتحدة.

لعبة شدّ الحبال

أراد أردوغان أن يكون جزءاً من لعبة بوتين. لكن وحدها القوة العسكرية كانت مهمة في تلك اللعبة، ولم يتمكن أردوغان من مواكبتها بكل بساطة. ولإرضاء بوتين، اشترى نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-400". سُلّمت الوحدات الأولى منه في شهر تموز، رغم معارضة واشنطن الشديدة. لكن لم تبتعد تركيا بالكامل عن حلف الناتو. وبما أن موسكو لم تحقق هدفها، بدأت تحرم أنقرة تدريجاً مما تريده.

حتى القواعد العسكرية التركية التي بلغ عددها 12 داخل إدلب وفي محيطها (اعتُبِرت مجرّد "مراكز مراقبة") لم تكن مفيدة: حالما بدأت روسيا ونظام الأسد هجومهما، عجزت القوات التركية عن ردعهما. وحتى القوافل العسكرية الثلاث التي أرسلتها أنقرة إلى جنوب إدلب يوم الإثنين الماضي، كدليل على قوتها، لم تحرز أي تقدم ملحوظ. فقد أعاقت طائرات الأسد المقاتلة القافلة الأولى على الأقل. صحيح أنها لم تقصف المركبات مباشرةً، لكن وقعت الضربات الهجومية على مسافة قريبة بما يكفي لوقف مسارها.

بالنسبة إلى الأسد، يتماشى الوضع القائم مع خططه على أكمل وجه. على مر ثلاث سنوات، عمد نظامه إلى اصطحاب الثوار ومناصري المعارضة إلى إدلب بالحافلات، بعد هزيمتهم في المعركة، للحفاظ على مظاهر إنسانية هناك. لكنّ إدلب محطتهم الأخيرة. فقد أعلن سهيل الحسن، قائد "قوات النمر" التابعة للأسد، عبر قناة الجيش على تطبيق "تلغرام": "أنا آمر بقتل الأولاد قبل الكبار في ساحة المعركة، والنساء قبل الرجال! لن نسمح بعد الآن بأن يعيش أي إرهابي بيننا"!

لا مكان للهرب

بنظر النظام، كل من لا يخضع للأسد إرهابي، وينطبق المبدأ نفسه على المقيمين في منطقة خاطئة. لذا لا يجد الهاربون من خان شيخون مكاناً يقصدونه. يتفاوض المبعوثون الأتراك والروس حول إنهاء العمليات الهجومية الميدانية، وانسحب المجاهدون المنتمون إلى "هيئة تحرير الشام" من جنوب إدلب كما يُقال. لكن لا تزال الهجمات الجوية متواصلة، وقد استهدفت مستشفيَين يوم الأربعاء وحده.

في أواخر شهر تموز، قرر محمود درويش، مؤرخ إخباري في مجلس مدينة خان شيخون يسجّل بدقة أعداد القتلى والجرحى والهجمات الجوية وعمليات القصف بالبراميل المتفجرة، الهرب مع زوجته وابنه إلى أريحا، في وسط المحافظة. لكن يوم الجمعة الماضي، بدأت الطائرات تقصف مجدداً الأحياء السكنية هناك.

تعيش بدرية بركات (81 عاماً) في أريحا مع حفيدتها غزل. يحارب أبناؤها في جيش الأسد وهربت بناتها إلى ألمانيا وحلب. كانت بركات تجلس منذ فترة أمام منزلها حين وقع صاروخ على مسافة قريبة. فرمت نفسها أمام حفيدتها لحمايتها وأصيبت بشظايا في معدتها وكتفها ورأسها. صحيح أنها نجت بعد الخضوع لجراحة طارئة لكن بقيت شظية في رأسها ولا أحد يستطيع نزعها. هي يائسة ووحيدة وتتساءل طوال الوقت: "إلى أين أذهب"؟


MISS 3